عبد الفتاح محمد إبراهيم حمايل، من مواليد العام 1950م في قرية كفر مالك قضاء رام الله، تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس كفر مالك وبيت حنينا، بعد العام 1968م غادر الوطن قاصداً قواعد الثورة شرقي الأردن، وفي7/9/1969م اعتقل إعتقاله الأول، وتحرر من الأسر في العام 1985م، وفي يوم 27/3/1988م، اعتقل إعتقاله الثاني وأفرج عنه في يوم 19/4/1988م، وفي يوم 4/8/1990م اعتقل للمرة الثالثة، وأفرج عنه في يوم 21/4/1992م، وعبد الفتاح حمايل متزوج ويحمل درجة البكالوريوس في العلوم السياسية ويعمل حالياً محافظا لمحافظ بيت لحم وعضواً منتخباً في المجلس الثوري لحركة فتح.
البداية
عندما وقع عدوان العام 1967م كنت طالباً في المرحلة الثانوية، في مدرسة الإتحاد اللوثري في بيت حنينا، ولأن هذا العدوان شكل لي ولكافة أبناء جيلي صدمة كبرى فأنه تسبب في تعديل مسار تفكيري وإهتماماتي، وصرفت النظر عن منهج الحياة المعتاد لأبن القرية الفلسطينية، وهو الحصول على الشهادة ومن ثم العمل وأخيراً الزواج، وكان للحقائق الجديدة على الأرض تأثيراً كبيراً على تحديد ميولي وهي البحث عن الثورة والنضال ضد المحتل، وقد كان لسمعة فتح وقوات العاصفة في ذلك الوقت قوة المغناطيس في جذب الشباب الرافض للإحتلال، وعلمت بأنه يوجد لهذه الحركة قواعد ووجود كبير شرقي نهر الأردن، وبعد أن حسمت أمري بشكل نهائي ومعي بعض طلاب المدرسة بالتوجه إلى تلك القواعد، فبدأت بالبحث عن الشخص الذي من الممكن أن يوصلني إلى هناك.
التوجه إلى القواعد
في شهر آب 1968م توجهت أنا وزميلي (وجيه هلال) إلى هدفنا ووصلنا قرية الكرامة في منطقة الغور، بعد أن عبرنا النهر سيراً على الأقدام، وبعد معاناة طويلة تمكنا من الوصول إلى أحد الإخوة يدعى (صلاح صلاح) ورحب بنا هذا المسؤول ترحيباً حذر، وأخضعنا لإختبارات قياس الجدية وخاصة إنه كان عمري حينذاك سبعة عشر عاماً، وفشلت كل محاولاته في ثني عن بلوغ هدفي الذي من أجله جئت إلى هنا، فطلب مني العودة إلى رام الله للإستفادة من الإحصاء السكاني الذي شرعت به إسرائيل في الضفة الغربية، وطلب مني أن أعود إليه بعد ذلك ومعي هويتي الشخصية، وبالفعل عدت إلى كفر مالك مع مجموعة من الفلسطينيون العائدون من الكويت وقد ساعدوني في معرفة طريق العودة عبر نهر الأردن، مقابل مساعدتي لهم في حمل جزء من متاعهم الكثير والثقيل، وكان عبور النهر هذه المرة صعباً وشاقاً تماماً بسبب فيضانه وغزارة مياهه.
في اليوم التالي لوصولي إلى البيت ذهبت مع والدي إلى مقر الحكم العسكري في رام الله وتقدمت بطلب الحصول على الهوية وبعد أسابيع قليلة حصلت عليها، وأخبرت والدي بأنني سأعود إلى الأردن لإستكمال تعليمي هناك فوافق وهو لا يعلم أي شيء عن حقيقة توجهاتي.
وبعد عدة أيام أتجهت شرقاً وقد خبأت هويتي في نعل حذائي، وعبرت النهر للمرة الثالثة بصحبة واحد من أقربائي وهو (صالح عيسى) الذي توجه إلى عمان لأغراض خاصة به، فوصلت إلى (صلاح) فسر كثيراً برؤيتي وبنجاحي في الإختبار الذي فرضه علي، ومن فوره أصطحبني إلى مكتب تابع لحركة فتح في مخيم الحسين وهناك قمت بتعبئة نموذج معد مسبقاً فيه لهذا الغرض .
وبعد اجتيازه لدورات تدريبية وعقد النية على ارساله للبنان ،الا انه بقي بالاردن ،ويقول عن ذلك ، بقيت في قواعد الثورة في الأردن إلى يوم 21/3/1969م أي بعد مرور عام على معركة الكرامة، حيث نمت في داخلي رغبة قوية للإنتقال إلى داخل الأرض المحتلة، وكانت مثل هذه الرغبة موجودة لدى العديد من الفدائيين، ومن الجدير ذكره هنا بأن الأسم الحركي الذي كنت معروفاً به في تلك الفترة من العمل الفدائي هو (سالم نجيدات) وقد تم إبلاغ قيادة الساحة الأردنية من قبل قيادة المعسكر بهذه الرغبة، وكانت منهم إستجابة متأنية لذلك، وطلب منا بعد أن حسم الراغبون منا أمرهم بالدخول إلى الوطن المحتل، الإستعداد لمقابلة قائد الساحة الأردنية وهو الأخ الشهيد (أبو صبري)، وكان جاساً إلى جانبه في هذا اللقاء الأخ خالد طنطش والنقيب أبو طارق، وقد أنتهت القيادة من تحضير المطلوب منها لتجهيز مجموعتنا التي كلفت بإنشاء قاعدة إرتكازية في منطقة نابلس، ويعني ذلك بأنه مطلوب منا عدم العودة للقواعد مرة أخرى، لأن البرنامج المطلوب منها تنفيذه يحتاج إلى وقت طويل حتى ينجز، وهو: العمل على تنفيذ عمليات عسكرية داخل منطقة التمركز (منطقة نابلس) وتسليح المجموعات العسكرية المتواجدة في نفس المنطقة بجزء من الأسلحة التي سنحملها والتي ستصل إلينا مستقبلاً، وإستقبال المجموعات الفدائية القادمة من القواعد والعمل على تجميع وتنظيم أعضاء الخلايا المطاردين في الجبال، وتقديم الدعم والعون اللازم لهم، تدريب من يتم تجنيده للعمل العسكري خلال وجودنا في المنطقة.
توجهنا إلى منطقة النهر وكنا ستة فدائيين وهم: أنا (عبد الفتاح حمايل) و(يوسف البحيصي المعروف بأسم خيال الزرقا) وهو من دير البلح في قطاع غزة، و(إبراهيم الخاروف المعروف بأسم زياد) وهو من مدينة نابلس، و(أسعد مناع والمعروف بأسم نايف) وهو من قرية بيت فوريك و(مروح النعسان المعروف بأسم صخر) وهو من بلدة المغير قضاء رام الله، و(أبو خليل عليوه) وهو من بلدة بيت فوريك أيضاً وكان دلول المجموعة، ورغم مرورنا بالعديد من العقبات فقد تقدمنا نحو النهر ونجحنا في اجتيازه .
الإستقرار في منطقة نابلس وبدء العمليات
أستقرت مجموعتنا في محيط نابلس وكنا نتنقل ما بين بلدات بيت فوريك زواتا وعينبوس، وبدء العمل، ونفذنا مجموعة كبيرة جداً من العمليات العسكرية، من أبرزها تلك التي نفذتها مجموعتنا في وادي التفاح، وقد واجهنا قبل ذلك صعوبة بالغة في إصطياد دوريات الجيش الإسرائيلي في المساء، لأن -الجيش الإسرائيلي- على ما يبدو كان يتجنب الخروج ليلاً إلا للضرورة القصوى.
ولكن في شهر 6/1969م قمنا بنصب كمين في وادي التفاح، وذلك بعد إعتقال مجموعة تابعة للجبهة الشعبية وهي خلية (حاتم الشنار ومريم الشحشير) وكنا خمسة أشخاص، وفي تمام الساعة الثانية عشر ليلاً مرت من أمامنا دورية مكونة من عربتين عسكريتين وسيارة مدنية بيضاء وكانت تابعة للمخابرات الإسرائيلية وكانوا متوجهين إلى بلدة بيت أيبا لتنفيذ عمليات إعتقال فيها، وبعد أن أصبحت السيارات أمامنا وعلى بعد 20 متراً أمطرناها بالرصاص الكثيف والقنابل اليدوية، فوقع بين الجنود إرتباك شديد لدرجة أنهم لم يتمكنوا من إطلاق رصاصة واحدة نحونا، وعرفنا لاحقاً من خلال راديو إسرائيل وغيره بأنه قد قتل جنديان وإصابة ثلاثة آخرون، وكانت مدة الإشتباك قصيرة جداً لم تتجاوز الخمسة دقائق، بعد ذلك منع التجول على نابلس وبدأت حملة تمشيط واسعة النطاق بحثاً عن المنفذين
الإعتقال والتحقيق
بعد إعتقال إحدى مجموعاتنا العاملة من بلدة جماعين تمكنت المخابرات الإسرائيلية من تحديد مكاننا في جبال بيت فوريك، وفي يوم 7/9/1969م مع تمام الساعة 8 صباحاً قامت قوة كبيرة من جيش الإحتلال بمداهمة بلدة بيت فوريك وتوجهت قوة أخرى نحو الجبل الذي نتواجد فيه وساندتها مع بداية الإشتباك المروحيات المقاتلة، وأستمر هذا الإشتباك لمدة ثلاث ساعات وأستشهد في نهايته 4 من أفراد المجموعة هم الشهيد أسعد مناع (نايف) والشهيد الشيخ عبد الرحيم، والشهيد نصر، والشهيد إبراهيم الخاروف، وأصيب بجراح بالغة كل من شاهر عبد الكريم وسليم فريتخ وأسر محمود الألفي وعصام الشايب، وقام الجيش الإسرائيلي بحمل جثث الشهداء داخل شبكة كبيرة مثبتة في أسفل مروحية مقاتلة ونقلها إلى منطقة الغور حيث تم دفن الجثث في مقابر الأرقام.
بعد نفاذ ذخيرتنا أقترب منا الجنود وتمكنوا من إلقاء القبض علينا، ونقلنا إلى معسكر جنيد العسكري حيث بوشر التحقيق معي، وبالمناسبة فأن هذا المعسكر كنا قد ضربناه بقذائف (لانشر) التي أحضرناها معنا من القواعد، وهو المكان الذي تحول لاحقاً إلى معتقل ومنه تحررت من الأسر، ولعلها مصادفة جديرة بالتأمل لأنها مليئة بالعبر والدلالات (فكانت فيه بداية رحلة الأسر وفيه كانت نهايتها).
وكان التحقيق معي منصباً على أن المخابرات الإسرائيلية تريد أن تعرف إذا ما كان هناك مجموعات أخرى تعمل في نفس المنطقة أم لا ؟ وهل نعرفها أم لا ؟ وكم عددنا الحقيقي ؟ وهل نحن جميعاً هنا ؟ أم بقي غيرنا طلقاء؟، بعد ذلك تم نقلي إلى تحقيق المسكوبية وبعد أسبوع إلى مركز التحقيق في مخابرات نابلس، وخلال التحقيق لم يُعثر معي على أي إثبات لشخصيتي لأنني قمت قبل العملية بدفن هويتي الشخصية في المنطقة التي كنا فيها في بيت فوريك تحت شجرة زيتون، لكن المخابرات الإسرائيلية قامت بنبش وتمشيط المكان فعثرت عليها وعرفت من أكون، وهذا تسبب بتغير مجرى التحقيق معي، وتسبب في نسف بيتي أيضاً من قبل جيش الإحتلال بعد الحكم، وكان أول بيت يتم نسفه في كفر مالك.
وفي يوم 10/10/1969م دخلت إلى معتقل نابلس وفيه ألتقيت بالعديد من الفدائيين الذين أعرفهم والذين لا اعرفهم، وكانت أحوال المعتقلات في تلك الفترة في منتهى السوء والقسوة، وكان يتواجد داخل الغرفة الواحدة من غرف معتقل نابلس 100 أسير وفيها حمام واحد، وكان الطعام سيئاً جداً، ولم أتذكر أنني قد تناولت وجبة طعام وشبعت منها، وكان معتقل نابلس معتقلاً مفتوحاً يدخل ويخرج منه وإليه العديد من الأسرى، ذات يوم دخل إلى المعتقل شخصاً لطالما سمعنا عن خيانته وتسببه بمقتل وإعتقال العشرات من الفدائيين الفلسطينيين مثل مجموعة عباس محمد صالح المعروف بـ (الكنت) ومجموعة أبو علي البوريني، وهذا العميل هو (شاكر الخراز) وبعد التداول في أمره من قبل قيادة المعتقل تقرر إعدامه، وكلفت بتنفيذ عملية الإعدام بالإشتراك مع الأخ المناضل يوسف خليفه.
وكان ذلك في يوم 21/1/1970م وفي إثر ذلك تم عزلي أنا ويوسف في زنازين المعتقل، وكانت حديثة البناء ولا يوجد فيها فراش ولا غطاء ولم تكن حتى جاهزة من الناحية العمرانية، ومكثت فيها 10يوماً.
بعد ذلك حولت للمحكمة، وحكمت بسبع مؤبدات و17 عاماً، ولم أوكل محام للدفاع عني أمام المحكمة العسكرية الإسرائيلية، إمعاناً مني في التنكر لها وعدم الإعتراف بشرعيتها، وبعد النطق بالحكم نقلت إلى معتقل الرملة وتم إيداعي في الزنزانة رقم (39) وكانت مخصصة للمحكوم عليهم بالإعدام، ومنعت من الصحف والتدخين والإستحمام بالماء الساخن والصابون، وعلى هذا النحو مكثت في هذه الزنزانة تسعة شهور، خلالها لم يكن أي أسير يعلم عن مكان وجودي ولا حتى أهلي ولا الصليب الحمر، في ضوء ذلك بدأ الأسرى في أكثر من معتقل بالبحث عني وإبلغوا الصليب الأحمر بإختفائي وبدأ الصليب الأحمر بدوره بالبحث عني لمعرفة مكان وجودي.
ذات يوم وأنا مستلقيا داخل زنزانتي سمعت أصواتاً قادماً من أخر الممر، وكانت أصوات رجال وصوت امرأة، وأخذت تلك الأصوات تقترب مني شيئاً فشيئا إلى أن وقف أصحابها أمامي، ففتح السجان باب الزنازنة إستعداداً لدخول أحد ما إليها، وكانت مندوبة الصليب الأحمر أول الداخلين لكنها لم تراني لأنها سألت السجان أين هو؟ فأشار إلي فاقتربت من أكثر، وسألتني وقدت بدت عليها علامات الدهشة والفزع والحزن في آن واحد.
منذ متى أنت في هذا المكان؟
قلت لها منذ تسعة شهور.
قالت، لماذا وجهك أصفر كثيراً؟
قلت لا أعلم، لربما لأنني لا أخرج من هذه الزنزانة.
قالت، لا لم تقل، بل بدأت بالبكاء! أمام دهشته زملائها والسجانين، وأخذت تصرخ في وجه مدير المعتقل والسجانون المتواجدين في الممر، قائلة لهم إن هذا الأمر غير قانوني وفي منتهى الوحشية، ولن نسكت عليه أبداً، وهذا الأسير يجب أن يخرج من هنا وحالاً.
أدارت وجهها نحوي مستكملة حديثي معي، الآن سأحصل على موافقة مدير المعتقل لخروجك من هنا إلى مكان أفضل وسأعود وأزورك بعد فترة للتأكد من خروجي من هذه الزنزانة.
وفعلاً بعد مغادرة مندوبة الصليب للمعتقل بساعات قليليه تم إخراجي إلى ساحة النزهة (الفوره) ولكن مكبلاً بالقيود، ومع وصولي إليها نظرت إلى الشمس فوقعت مخشياً علي، وتم نقلي إلى عيادة المعتقل، فقال لي الطبيب بأن ما حدث معي هو أمر طبيعي لأنني لم أرى الشمس منذ مدة طويلة وكان يجب علي أن لا أخرج مباشرة إلى الساحة والتحديق في الشمس بسرعة.
بعد ذلك تم نقلي إلى قسم إكسات معتقل الرملة وهي أوسع قليلاً من الزنزانة التي كنت فيها، ويوجد في هذا الإكس حمام له نافذة مطلة إلى الخارج وغن بصعوبة، لكن يمكن رؤية جزء من المشهد الخارجي خلف الأسوار، ومكثت في هذا الإكس خمسة شهور، بعد ذلك نقلت إلى معتقل الرملة، وخلال فترة وجودي في العزل حدثت أمور كثيرة خارج المعتقل كإشتعال حرب أيلول وخروج الثورة من الأردن، ووفاة الزعيم جمال عبد الناصر وغير ذلك من أحداث، بعد ذلك نقلت إلى قسم (الفتح) في معتقل الرملة وكانت فيه إمكانية للخروج المنتظم للساحة وإدخال الملابس والعمل الداخلي في مرافقه كالمغسلة والمردوان والمطبخ، وفي بعض الصناعات الخفيفة، وقد قمت بجمع الصحف القديمة المتوفرة في القسم لكي أقرأ عن كل حدث فاتتني متابعته خلال فترة العزل.
في عام 1972م نقلت إلى معتقل عسقلان، وكان هذا المعتقل كما هو معروفاً عنه معتقلاً تأديبيا يراد منه وفيه كسر شوكة الأسير الفلسطيني، وكان معتقلاً مغلقاً لا يخرج منه الداخلون إليه وجميعهم من ذوي الأحكام العالية والمؤبدات، وخاض عسقلان معارك وتجارب مريرة وقاسية ضد إدارته وضد إسرائيل كلها، ونفذ أسراه ثلاثة إضرابات معروفة وكبيرة وهي إضراب عام 1971م وإضراب عام 1976م الذي تحول لإضرابين الأول مدته 45 يوماً، والثاني مدته 30 يوماً في محصلتهما تم تحقيق العديد من الإنجازات الهامة للأسرى كالفرشات الأسفنجية كبديل للقطع الجلدية الرقيقة والأغطية والكتب والصحف وحرية العمل، ومكثت في عسقلان عشر سنوات من 1972- 1982م بعد ذلك نقلت إلى معتقل بئر السبع وكان مختلفاً تماماً عن عسقلان.
في العام 1984م تم إفتتاح معتقل جنيد وتم نقلي إليه مع مئات الأسرى، وفي هذا المعتقل خضنا إضراباً كبيراً عن الطعام أستمر لمدة 12 يوماً بدأ صباح يوم الأحد 23-9-1984م، وكان شعاره الرئيس المطالبة بتحسين شروط الحياة لتصبح إنسانية أكثر ومناسبة أكثر لحياة للبشر، وحصلنا في نهايته على إنجازات هامة كالسماح لنا بإقتناء جهاز راديو ترانزستور وتحسن نوعية وكمية الطعام وزيادة وقت النزهة.
التحرر من الأسر
في شهر 5/1985م تم تنفيذ عملية التبادل الشهيرة بين الجبهة الشعبية – القيادة العامة وإسرائيل، لمبادلة الجنود الإسرائيليين المحتجزين لدى الجبهة، وأطلقت الجبهة الشعبية على هذه العملية أسم (عملية الجليل) وأفرجت إسرائيل بموجبها عن 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، منهم (883) أسير كانوا محتجزين في السجون الإسرائيلية، و 118 أسيراً كانوا قد خطفوا من معتقل أنصار في الجنوب اللبناني أثناء تبادل العام 1983 مع حركة فتح، و 154 معتقلاً كانوا قد نقلوا من معتقل أنصار إلى معتقل عتليت أثناء الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان مقابل ثلاثة جنود كانوا بقبضة الجبهة الشعبية وهم الرقيب أول (حازي يشاي) وهو يهودي من أصل عراقي وقد اسر خلال معركة السلطان يعقوب في 11 يونيو1982 حينما كان يقود إحدى الدبابات ضمن رتل من الدبابات الإسرائيلية، فضلت دبابته طريقها فأطلقت عليها مجموعة من الفدائيين قذائف أر بي جي مما أدى لإصابتها وبعدها شاهدوا جندياً يفر من داخلها فتمكنوا من أسره ونقله لمكان آخر، والجنديان الآخران هما (يوسف عزون ونسيم شاليم) أحدهما من أصل هنغاري والآخر يهودي من أصل مصري، وقد أسرا في بحمدون بلبنان بتاريخ 4 سبتمبر 1982، مع ستة جنود آخرين كانوا بحوزة حركة فتح وأطلق سراحهم ضمن عملية تبادل للأسرى عام 1983 .
وفي العاشر من شهر أيار من نفس العام أبلغت إدارة معتقل جنيد ممثل الأسرى مسلم الدودة بأن عملية تبادل الأسرى ستتم وأن هناك العديد من الإجراءات سيتم إتخاذها ومطلوب من الأسرى التعاون والإستعداد لذلك، وتم تشكيل لجنة نضالية مضاف أليها عضو من منظمة الصليب الأحمر سميت بـ (لجنة التشخيص) ووظيفة تلك اللجنة هو التأكد من شخصية الأسير ومطابقة الأسماء المدرجة في الكشوف على الأشخاص فعلياً وعلى أرض الواقع، وبعد التأكد من شخصية كل أسير، كان أعضاء تلك اللجنة يوقعون على صحة ما توصلوا إليه في سجل خاص بالصليب الأحمر .
بعد الإنتهاء من كل هذه الإجراءات خرجنا من معتقل جنيد وعدنا إلى بيوتنا وذلك بفضل هذه العملية العظيمة التي أعتقد بأن قوتها كانت تكمن ليس في العدد الكبير الذي تم إطلاقه سراحه من المعتقلات بل وفي شروطها أيضاً وفي مقدمة تلك الشروط السماح لمن يرغب من الأسرى من حملة هوية الضفة وغزة بالبقاء في الوطن المحتل.
بعد التحرر فضلت أن أخذ قسطاً من الراحة، لأتمكن من إستيعاب المشهد الجديد الذي رأيت البلاد عليه، لأنني رأيت بلداً بدى لي جديداً في كل شيء من إنسانه إلى جماده، وعادات الناس فيه وأطباعها، في هذا الوقت كان لي من العمر 35 عاماً بناء عليه قرر أهلي خطبة فتاة لي من فتيات كفر مالك وهي السيدة (كريمة عيد) وكانت مديرة مدرسة البنات الثانوية، وقبل الزواج بوقت قليل قررت مصارحة خطيبتي بحقيقة توجهاتي في هذه الدنيا، وهي بالأحرى قناعاتي القديمة التي لم تتزحزح قيد أنملة من مكانها القديم بعد كل سنوات الإعتقال الطويل، فقلت لها ذات يوم أسمعي يا بنت الناس " أنا لا أعتقد بأن تحرري من الأسر هو نهاية مشواري الكفاحي وعملي الوطني، ولربما هو بداية لأمور كثيرة قادمة، وأريد منك أن تتعرفي على هذه الحقيقة، فردت على ما قلت لها بالرضا والقبول فأسعدني ذلك كثيراً " وهكذا أنتهت مرحلة عزوبيتي.
بعد مضي ثلاثة شهور على تحرري من الأسر جائني الأخوين راضي الجراعي وفهد أبو الحاج، وطرحا علي فكرة تجديد نشاطي التنظيمي، فأجبتهم بالموافقة الفورية على عرضهم، وفي هذا الوقت كانت القيادة في الخارج وتحديداً الأخ أبو جهاد يناقش فكرة إعادة بناء تنظيم الداخل على أسس جديدة، وإستبدال الطريقة القديمة في العمل التنظيمي، وهي الطريقة الخيطية والبناء الأفقي، حدث ذلك في الوقت الذي نضجت فيه إهتمامات فتح بالعمل الجماهيري وتطور أداء حركات الشبيبة للعمل الإجتماعي كثيراً في الضفة الغربية وقطاع غزة.
بعد ذلك قابلت الأخ (محمد أبو حمام) وكان على صلة وثيقة بالأخ أبو جهاد، وهو الذي شرح لي توجهات أبو جهاد لبناء تنظيم مركزي في الداخل، وتقسيم الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق شمال وسط جنوب، وقطاع غزة إلى منطقتين شمال وجنوب، ويكون إتصال قيادة تنظيم الداخل مع الأخ أبو جهاد حصرياً، وبالفعل شكلت تلك القيادة وكانت مكونة من الإخوة: أبو المخلص البرغوثي وزهير عبد الهادي وأبو الأمجد علاونه وطلال أبو عفيفه وربيحة ذياب وجميل المطور وصلاح زحيكه وصائب نظيف وفريال الأغا وعبد الرحمن حمد وراضي الجراعي وعماد يعيش، سمير شحاده زهير القيسي عبد الكريم سدر أبو حسن جبارين، بعد ذلك إندلعت الإنتفاضة الوطنية الكبرى وهي التي عمل الأخ أبو جهاد من خلال قيادة التنظيم على إذكاء نارها وتأجيجها، وشاركت فيها كما ينبغي لدوري أن يكون.
الإعتقال الثاني
في يوم 27/3/1988م أعتقلت من قبل المخابرات الإسرائيلية إعتقالاً إحترازياً ومكثت في الأسر لغاية يوم 19/4/1988م وخلال وجودي فيه أستشهد الأخ أبو جهاد في يوم 16/4/1988م، بعد ذلك اعتقل أبو حمام وأعترف عن كامل التشكيل الحركي التنظيمي في الضفة الغربية، وبدأت حملة ضارية من الإعتقالات، أنا قررت الإختفاء عن الأنظار وأصبحت مطلوباً لمخابرات الإحتلال، وأستقر بي المقام في مخبأ سري في قرية سردا، وكان الإخوة في قيادة التنظيم يزورونني بإستمرار فيه لتبادل الأراء ونقل التعليمات والمعلومات مني وإلي وخاصة الأخت ربيحة ذياب، وبسبب الفراغ الذي نشأ عن عملية الإعتقال تم تعين قيادة جديدة للتنظيم كان فيها الإخوة حسن علوي وحسن الخطيب وطلال أبو عفيفه وعبد الكريم صعايده، في هذا الوقت كانت فكرة القيادة الموحدة تترسخ على الأرض وأصبحت المحرك الرسمي للإنتفاضة وكنت أتولى إدارة عملياتها وصياغة بياناتها وكانت مؤلفة من فصائل م. ت. ف الرئيسة فتح والشعبية والديمقراطية، وحزب الشعب.
وبعد الإتفاق مع القيادة في الخارج على تشكل مرجعية سياسية وتنظيمية للإنتفاضة كان الأخ فيصل الحسيني حريصاً على زيارتي بين الفينة والأخرى بمعدل مرة واحدة كل أسبوعين وواحدة منهن تسبق كتابة بيان القيادة الموحدة للإنتفاضة، لينقل لي توجهات القيادة السياسية وتضمينها للبيان الشهري، وكان المرحوم فيصل كما هو معروف على صلة وثيقة بالقيادة وخاصة الأخ أبو عمار، وذات يوم زارني الأخ سري نسيبة ولن أنسى مواقفه الوطنية والإنسانية الكبيرة وكذلك مواقف زوجته السيدة (أم جمال) التي أصرت ذات يوم على توفير الأغطية الجاهز (سليبنك باك) للمطارين لتقيهم برد الشتاء، عدا عن المواد التموينية والأغذية، وفي هذه المرحلة كانت تتحول مجلة (صوت الإنتفاضة) إلى منبر إعلامي وكانت تصدرها حركة الشبيبة في جامعة بيرزيت ويشرف عليها الأخوة جمال السلقان وماجد عبد الفتاح ويوسف الكرم.
الإعتقال الثالث
وكان في يوم 4/8/1990م وكان عن طريق الصدفة البحتة، لأن الجيش الإسرائيلي أقترب من المكان الذي كنت مختبئاً فيه في قرية سردا باحثاً عن شاب أسمه (أحمد ثابت) من قرية دير غسانه، وعندما ذهب الجنود إلى منزله ليسألوا عنه قال لهم ذويه بأنه عند خاله (فخري السرداوي أبو باسم) في قرية سردا، وهو نفس الرجل الذي كنت مختبئاً في بيته فلم يعثروا على أحمد فعثروا علي، ومن الجدير ذكره هنا بأنني مكثت في منزل هذه الأسرة الفاضلة والمناضلة أكثر من ست وعشرون شهراً وفروا لي خلالها كل سبل وأسباب الإقامة الأمنة والمريحة التي مكنتي من قيادة الإنتفاضة على النحو الأمثل وبهذه المناسبة لهم مني ولروح المرحوم أبو باسم كل التحية والتقدير والإمتنان.
بعد ذلك حكم علي بعامان ونصف إعتقال فعلي وعام إبعاد، وخلال وجودي في الأسر عقد مؤتمر مدريد للسلام وتم أختياري من قبل القيادة لأكون عضواً في وفد السلام، لكن شامير إسحاق شامير رفض وجودي في الوفد وقال "لن نقبل الحديث مع وفد فيه إرهابيون كعبد الفتاح حمايل".
بعد هذه المرحلة تم تشكيل ما عرف باللجان السياسية وكان الهدف منها السيطرة على رموز الإنتفاضة للإستفادة من قوتهم في الشارع لدعم مسيرة السلام، وبعد التوقيع على إتفاقية أوسلو تم تقديم موعد عودتي إلى أرض الوطن، وتم تشكيل اللجنة الحركية العليا التي تولى أمانة سرها الأخ فيصل الحسيني، وأشرفت اللجنة العليا على تنظيم إنتخابات الاقاليم وفرزت بتولي مهمة أمين سر إقليم رام الله والبيرة، وهي النتيجة التي أعترض عليها إسحاق رابين لدى القيادة الفلسطينية، وقد لاقت تلك الإنتخابات أيضاً إعتراضات وإحتجاجات كبيرة من بعض المحيطين بالمرحوم ياسر عرفات لأسباب خاصة بهم وبأجنداتهم الشخصية والسياسية، وتم تصويرنا وكأننا فريق معارضون لأوسلو، وبقيت على رأس عملي كأمين سر لإقليم فتح في رام الله والبيره إلى أن بدأت إنتخابات المجلس التشريعي عام 1996م وخضت تلك الإنتخابات كمرشح مستقل وفزت فيها، في إثر ذلك أستقلت من مهمتي التنظيمية للتفرغ لمهمتي الجديدة في البرلمان.
وعندما تولى الأخ أبو مازن رئاسة أول حكومة فلسطينية في العام 2003م عينت وزيراً في حكومته (وزير دوله) وأعمل الآن محافظاً لمحافظة بيت لحم، وعضو منتخب في المجلس الثوري لحركة فتح.