الهيئة الاكاديمية والموظفين

مركز أبو جهاد يطلق صرخة لنصرة الأسرى

عدد المشاهدات: 210

عضو المجلس الثوري المناضل المحرر حسن الخطيب يروي صفحات مشرقة من تاريخ الحركة الاسيرة

القدس – هي معركة الارادات المتواصلة خلف اسوار المعتقلات وفي زنازين التحقيق ، في الوقت الذي تصعد فيه سلطات الاحتلال الاسرائيلي من انتهاكاتها الفظة ضد الاسرى في محاولة للالتفاف على الانجازات الاخيرة التي حققوها في معارك الامعاء الخاوية التي سجل فيها الاسير الفلسطيني رقما قياسيا عالميا ،  ولذلك يبقى ملف الاسر من اهم الملفات الفلسطينية التي تحتاج الى متابعة ووقفات تضامنية جادة وتحرك رسمي مكثف . وضمن هذا السياق يقول د. فهد ابو الحاج مدير عام مركز ابو جهاد لشؤون الحركة الاسيرة في تصريحات لـ جريدة القدس ان المركز يطلق بهذه المناسبة صرخة اخرى لنصرة الاسرى ويستعد لسلسلة من الفعاليات بهذا الشأن.

وفي هذه الزاوية سنتناول في هذا التقرير الجزء الثاني والأخير من التجربة النضالية و الاعتقالية لعضو المجلس الثوري المناضل المحرر حسن عارف الخطيب كما يرويها بنفسه.

الليلة الصعبة ولقاء الزنزانة

كنت في زنزانة رقم 1 وكان بينها وبين  الزنزانة المجاورة رقم 2 شباك صغير في أعلى الجدار …و كنا نعلم ان هذا الشباك موضوع كمصيدة للمعتقلين , ولكن في منتصف الليل سمعت مفاتيح الشرطي تفتح الزنزانة المجاورة وتدفع باحد المعتقلين الى داخلها وبعد اغلاق الباب… سمعت انات كهل ممزوجة بحرقة الم وارتجاف صوت كان فيه صهيل حصان كأنه  يسابق الريح وكان في  بعض كلماته مسحوق ارادة لا تلين ولا تهزم… فرفعت رأسي وانتصبت قائماً لاقف بجانب الجدار .. تحت الشباك الصغير وقلت دون مبالاه لاية مخاطر من هنا!! من انت !! ما شأنك … وكان معروف لدينا نحن المعتقلين  دائماً ان المعتقل حذر في أي كلمة يقولها خوفاً من الجواسيس وسماع أي كلمة تساعد في حل أي لغز للجهات الامنية…

كررت كلماتي وشعرت ان من في الزنزانة الاخرى وقف بجانب الحائط وبدأ يهمس وقد بدا انه عرف صوتي وقال انت مين … تأكدت انه والدي فقلت : يابا  انا حسن … كيفك كيف امي .. كيف اخواني واخواتي … قال لا تقلق  … الجميع بخير … وانا بخير….

كنت انا من خلال التحقيق قد عرفت ما هو مطلوب مني و من والدي وما هو مطلوب من اخواني فيما بعد فقلت له دون خوف او وجل حتى اطمأنه.. وانا على يقين ان كلامنا مسموع واننا تحت المراقبة … وانهم اتوا بوالدي بقربي حتى تتسرب بعض الكلمات … قلت له لا تقلق فالتحقيق معي على "مسدس عمي " وانت لا علاقة لك به بتاتاً … وانهيت الحديث ولكنني شعرت انني طمأنته على محور التحقيق.. فكان قد تم اعتقال عمي أحمد مع مجموعة من القرية وقد اعترف عمي على أنه باعني مسدس وهو الذي اصبح محور التحقيق وكان ذلك للأسف بعد أربعة عشر شهرا من اعتقالي , حيث لم آت على ذكره في التحقيق الأول .

وما هي إلا لحظات حتى فتح باب الزنزانة ليخرج والدي ويشبح من الخارج على بوابة زنزانتي وما اصعبها من ليلة … والدي مشبوح في الخارج في ظل البرد والريح وهو لا يقوى على الوقوف في الشبح مدة طويلة … وانا في داخل الزنزانة … املك حرامين حرام تحتي وحرام اغطي به نفسي على الرغم من نتانتها ورائحتها الكريهة  … وكم عشت في صراع مع الذات في تلك اللحظة … كيف اغطي نفسي ووالدي يقف في البرد … ما اصعبها من لحظات … لحظات قهر وعذاب وسادية لا نظير لها ,  نعاقب ونعذب بها ولكنني آثرت على نفسي البقاء دون غطاء كما هو  والدي على باب الزنزانة من الخارج  وانا من الداخل .. ولكن الامرأصبح مريحاً بالنسبة لي على الاقل من جانب نفسي ومن جانب تضامني … وبقي الامر حتى الصباح … ليدخل والدي غرف التحقيق ويبدأ مسلسل اخر … مع مجيء اخوين اخرين لي هما محمد وعبد السلام في الليلة الثانية  بعد اعتقال  والدي ويبدأ مسلسل تحقيق معنا الاربعة في غرف التحقيق .. ويبقى الوالد صامداً ولم  يقر بما لديهم من معلومات  ولو بكلمة واحدة … وليأتي موعد محاكمتي وانا في داخل الزنازين….

في المحكمة

خرجت الى المحكمة مكبل اليدين وبملابس لن تفارق جسدي لاكثر من اسبوعين ولجسد لم يبتل بالماء طيلة فترة التحقيق وشعري وذقني تتخللها بقايا اشياء من بطاطين بالية ومقرونة بروائح نتنة ….

هكذا كان المشهد … في المحكمة … ولاشاهد والدتي للمرة الاولى … ولم اصدق نفسي ان اراها حيّة ترزق … فاحتضنتني بقوة وكنت اسألها هل انت ما زلت على قيد الحياة.. هل انت بخير ماذا حلّ بكم بعد اعتقالنا… وبصراحة  لم استطع حبس دموعي … لكنها زجرتني وكانت كلماتها تواسيني .. انها ام عظيمة … زوجها وثلاثة من اولادها الان في زنازين الاعتقال… انتهى هذا المشهد … بعد ان حكمت علي المحكمة  عشر سنوات وعدت الى الزنزانة ولم اعد للسجن .. وما هي الا لحظات حتى يتم استدعائي الى غرفة المحقق ابو غزاله مع اخواني ووالدي ليحاول ان يلعب على وتر نفسي رهيب … ويقول من سيقف معكم الان من يتكفل باسرتكم الان … كيف تركتم اخوانكم الصغار … كان ردي سريعاً انكم انتم تريدون هكذا .. الاحتلال يريد ذلك …. لكن والدي لم يصمت وتحدث بكلمات لم ترق للمحقق ابو غزاله… فقام بضربه بمتكة السجائر التي جرحت شفته العليا … وبدأ الهرج والمرج والصراخ.. واعادوا كل منا الى زنزانته …

من سجن رام الله الى سجن نابلس القديم

 نقلت الى سجن نابلس دون وداع زملائي وكان ذلك بعد اربعة عشر شهرا في السجن … وفي سيارة الزنزانة .. التقيت بعدد من المعتقلين كان اهمهم احمد سوالمه  الذي سألني عن محكوميتي فقلت له عشر سنوات … فقال لي : انا الان انهيت عشر سنوات وباقي لي ثمانية … وكان لهذا الحديث صدى واسع من جانب معنوي  … فقد كان الاخ احمد من احدى الدوريات التي اتت من سوريا الى الارض المحتلة  .. وقد انهى مدة محكوميته بل تجازوها وهو في انتظار موافقة الدول العربية على استقباله.

في نابلس القديم الوضع يختلف فالسجن أكثر عددا وأوسع حجما وبه من الكفاءات الاعتقالية وجوه عديدة وما يميز هذا السجن ساحته الكبيرة المطلة على جرزيم

وعيبال فترى من خلالها حركة الناس في الخارج  وكأنك تشاركها حياتها … ويكفي ما كنا نراقبه يوميا وهو حمار العم ابو صبري , الذي كان ينزل على حماره راكبا لعدم توفر الطرق والمواصلات في سفح عيبال في ذلك الوقت … وقد التقيت في نابلس مع اخوة مميزين ومنهم من أصبح مع  الشهداء والصديقين كالاخ جاسر دويكات والاخ خميس عدوي صاحب كمال الاجسام رحمهما الله والتقيت بوجوه مناضلة أخرى كثيرة منهم منير العبوشي وفايز الفسفوس وأمين مقبول وزياد هب الريح وغسان الشكعة وعبد الله فقوعة وعاكف فايز وعمر الحروب وغيرهم الكثيرين .

الزيارة المهمة

 في أحد الايام  ونحن ننتظر أسماءنا على الزيارة مر اسم فايز عبدالقادر اسماعيل ( قد يكون الاسم غير دقيق ) في قائمة المطلوبين للزيارة … وفيها قفز الى الذاكرة الشهيد أبو الراتب ( شهيد بيروت )  لقد تناغمت الاسماء … وكان المرحوم أبو الراتب ( من الخضر ) قد حدثني عن وجود ابن له في فلسطين وكم كان يتغنى به وهو مضطجعاً على ظهره ومحملقاً في الافق البعيد .

المهم انتظرت انتهاء الزيارة وطلبت من أحد الاخوة في الساحة احضار فايز بعد انتهاء زيارته وكنت في غرفة (5) حيث أتى به ليقف على شباك المردوان دون ان يعلم عن سبب دعوته … وقف أمامي وللوهلة الاولى كانت وقفة مؤلمة لما فيه من تشابه مع والده طولاً ولوناَ وشعراً وعينان خضراوان… قلت له ما اسمك ومن أين انت … فكان مندهشاً لأسألتي وأكملت … ماذا يعمل والدك ؟ … حينها قال لي … والدي استشهد في لبنان حينها تأكدت من شخصه وقلت له هل تعلم عن استشهاد أبيك شيئاً … قال  لا قلت له أنا صديق والدك … فنظر الي بدهشة اكثر وضرب الشبك بيده … قلت له انتظر سأخرج الى عندك … وطلبنا من الشاويش خروجي الى الساحة بما يسمى زيارة الأصدقاء في الفورة .

 فخرجت واخذته بأحضاني ولم تستطع الدموع الانحباس في مقلتاي … تحدثت له عن والده كثيرا وعن استشهاده وعن بطولاته وأمجاده … ومعلومات لا يعرف منها شيئاً واستمر الحديث لأكثر من ساعة وهو الحديث الذي قال عنه أنه الحديث الامتع له في حياته الذي يعرفه عن أشياء لا يعلمها عن والده … وكان في الساحة أيضا الاخ عدنان جابر أحد منفذي عملية دبويا في الخليل وهو يعرف ابو الراتب أكثر مني  … وعندما عرفته على فايز انهمرت الدموع من عينيه عندما عرف أنه ابن الشهيد أبو الراتب .

وكانت المفاجأة أن فايز كان ينتمي للجبهة الشعبية وليس لحركة فتح وبصراحة لم نكن نرغب أن يكون كذلك بعيدا عن خطى والده في حركة فتح … فصارحته بالموضوع الا انه ابى الا ان يكون بقناعة كما قال على خطى غسان كنفاني وتشي جيفارا .

فايز لم يمكث طوبلا في السجن … أيام أو أشهر معدودة  وخرج من سجن نابلس , وكنا قد اتفقنا على اللقاء فيما بعد …

لن يتم اللقاء ولكن بعد انتهاء مدة محكوميتي وعملي في صحيفة الفجر ومع بداية الانتفاضة الاولى … وبشكل فجائي … شاهدت نعيا للشهيد فايز عبدالقادر اسماعيل… سقط شهيدا في مواجهة مع الاحتلال في قرية الخضر في بداية الانتفاضة الاولى … وحقا كان على خطى والده وخطى غسان كنفاني .

تنقلت في معتقلات عديدة وساهمت مع زملائي في مهام تنظيمية كثيرة واهمها الجوانب التثقيفية والتوجيهية والتحدث مع ادارات السجون باسم المعتقلين.

فالتقيت بالعديد من الاخوة المناضلين وكان لكل معتقل سماته… وخضنا العديد من الاضرابات عن الطعام والزيارة …

وبعد ثلاث سنوات أمضيتها في سجن نابلس القديم تم نقلي الى سجن جنين ومكثت فيه ثلاث سنوات اخرى قضيت وقتاً ممتعاً مع العديد من الزملاء خاصة المرحوم ابو صالح زكارنه وكامل جبر وعبد الحميد ابو حشيش واحمد العينبوسي… واخوة اخرين ابطال من الجولان السوري المحتل منهم المرحوم شكيب ابو جبل وابنه يوسف وابو رياض وشمس ومنصور وغيرهم حيث تتلمذت على يد يوسف ابو جبل في اللغة العبرية .

وقد  سقط من الشهداء في الانتفاضة الاولى  ممن عرفتهم في سجن جنين امثال فوزي الدمج وبسام الحريري .

فكان سجن جنين ثورة للثقافة والمعرفة والتعبئة الوطنية وكنت الأكثر خطابة في المناسبات فقال لي مرة أحد السجانين الدروز … صدقني أنني انتظر مناسباتكم حتى أسمع ما تقول .

زيارة العظمة

اثناء حرب لبنان سنة1982 وبعد وقف اطلاق الناروخروج قوات منظمة التحرير من بيروت الى العواصم العربية كانت بصراحة معنوياتنا هابطة وكنا نحن المعتقلين نستمد قوتنا من قوة منظمتنا.. م. ت. ف ومن قوة قيادتنا ومن قوة مقاتلينا ووجودهم في قواعد ارتكازية في جنوب لبنان وهي الدولة الوحيدة التي نتواجد فيها بقواتنا العسكرية…

وكانت ايضاً معنويات اهالينا وخاصة من هم على صلة بالثورة والمنظمة والفدائيين في الحضيض… فجاءت والدتي وشعرت انها مكسورة الخاطر وهي تغطي فمها بطرف منديلها والدموع في عينيها… واقتربت مني على الشبك واستفسرت عن صحتي واحوالنا واخبارنا … لكنها ليس ككل الزيارات … ترددت في كلامها… ونظرت لما حولها واقتربت اكثر وقالت … هل تعلم يا ابني ماذا تمنيت … قلت…ماذا يا امي؟… قالت : والله تمنيت لو استشهدتم انتم السبعة ( يعني انا واخواني) وبقيت الثورة في بيروت … لم اصدق ما سمعت ولكني قلت لها ماذا؟… ماذا؟ فأعادت كلماتها… ان نستشهد السبعة … حملقت بها ووقفت من على مقعدي وضربت الشبك بيدي … وقلت… اسمعوا يا شباب اسمعوا يا شباب ما تقوله امي … الام العظيمة … الام المعطاءه… الام المدرسة فذهل من حولي واصبح حديثنا بعد الزيارة تلك الكلمات الرائعة..

لكنني كنت قد أجبتها.. اسمعي يا أمي.. لا تقلقي… فمع كل التقدير لبيروت… الا ان بيروت ليست القدس… ومهما كانت قوة الثورة في بيروت فالثورة الحقيقية هي هنا في فلسطين.

فالثورة … هي هذا الشعب العظيم .. ومع بداية الانتفاضة الاولى … جلست امي بجانبي وقالت … اتذكر يا حسن ما قلته لي في سجن جنين …. وذكرتني بزيارتها … وقالت كنت صادقاً يا ابني… الثورة هنا.. نعم الثورة في فلسطين.. بارك الله فيكم.

من جنين تم نقلي الى معتقل جنيد 1984 لالتقي بخيرة القيادات المناضلة دون استثناء … فقد اصبح معتقل جنيد مركزاً اساسياً للمعتقلين وكان الهدف من تجميعنا فيه هو السيطرة على الحركة الاسيرة والتعامل معها بوسائل واجراءات غير معهودة… وكان لي الشرف العظيم بتجربتي البسيطه في سجون الضفة الغربية والتي لم تتجاوز حينها سبع سنوات ان يتم اختياري مع اخوة اخرين مناضلين  ومجربين في سجون بئر السبع ونفحه وعسقلان وغيرها ان اكون واحداً من تسعة أعضاء للجنة  المركزية لحركة فتح في سجن جنيد بقيادة الاخوة قدري ابو بكر وجبريل الرجوب والمرحوم مسلم الدوده وسامح كنعان واحمد هزاع ولؤي عبده وابو حسن شريم وعبد الفتاح حمايل وحسن الخطيب، وكان  ذلك بالنسبة لي مفخرة وعظمة في ملحمة نضالية اعتقالية كبيرة.

وكانت هذه القيادة الفتحاوية من قادت اضراب جنيد المشهور لسنة1984  حيث مثّل اللجنة النضالية في تلك المرحلة الاخ جبريل الرجوب وحقق الاضراب مبتغاه رغم كل الصعوبات بعد استمراره لمدة اثني عشر يوماً .

صفقة جبريل لتبادل الاسرى

لم يمر عليّ موقفاً  في الاعتقال اكثر فرحاً واشد ايلاماً من تلك اللحظات التي تمت فيها صفقة التبادل وخروج مئات المعتقلين من سجن جنيد… مناضلين امضى بعضهم اكثرمن خمسة عشر عاماً ومن هؤلاء كانت قيادات المعتقلات وخيرة اخوتنا المعتقلين… وحقيقة الامر ان زملائنا تركوا فراغاً كبيراً .. كانت الحافلات  تقف في ساحات المعتقل.. وكنا نحن المتبقين ننظر لها من خلف الشبابيك … بمشاعر ممزوجة بين الحرقة والالم لفراق هؤلاء … والاكثر يفكر لماذا لا تشمله الصفقة خاصة اصحاب الاحكام العالية ومشاعر ايضاً بالفرح للافراج عن زملائنا … ولكن الاخ قدري ابو بكر كان له وضع اخر… ولاننا كنا نمسك بزمام امور التنظيم … فكان بحوزته بعض الكبسولات ( اوراق تنظيمية) فطلب مني مراجعتها ومتابعة امرها … فقلت له يا اخ قدري بابتسامة عريضة … انت في شأن والشباب في شان اخر فهل  الوقت وقت اوراق …  هل الان وقت ورق وتنظيم … وكانت اجابته فقط الابتسامة … ولكن كان هذا يدل على عظمة هذا الانسان ورباطة جأشه وقدرته على التعامل مع الاحداث… ولكن في حقيقة الامر كان هذا قدرنا ونحن الباقون ان نتعامل بهذه الروحية وان نتابع امورنا التنظيمية … مع ان الامر لم يكن يخلو من بعض حالات الانهيار للذين كانوا يفترضون خروجهم ولكن لم تشملهم الصفقة .

 

اضراب جديد عن الطعام

بعد الافراج عن العديد من المعتقلين والقادة ازدادت همجية سلطات السجون وبدأت تتعامل بطرقها المعهودة الامر الذي قررت فيه قيادة معتقل جنيد الاضراب عن الطعام مرة اخرى عام 1985 وما ان بدأنا باليوم الثالث حتى قامت ادارة السجن بنقل ما لا يقل عن عشرين معتقلاً الى العزل في  سجن بئر السبع وكان من  بين المنقولين معي الاخ منير العبوشي، وقد جاء للعزل ايضاً بعض الاخوة من معتقل جنين كان منهم الاخ جهاد زكارنه… واستمر اضرابنا اكثر من عشرة ايام ولم نفك الاضراب الا سوياً مع سجن جنيد وجنين بالتنسيق مع الصليب الاحمر .

المرض والمفاجأة

ومن عزل بئر السبع الى عزل كفار يونا تم نقلي ومجموعة من الاخوة الى معتقل كفار يونا وقد كان كفار يونا  افضل بكثير من معتقل بئر السبع ، وعلى اقل تقدير كنا نشتم روائح البرتقال والحمضيات من حولنا دون ان نشاهدها او نتذوق طعمها.. وكان معي في كفار يونا الاخ المناضل عثمان مصلح الرجل الذي امضى اكثر من ثلاثين عاماً في سجون الاحتلال والاخ الاستاذ الدكتور ( حاليا ) مشهور حبازي ,  وفي معتقل كفار يونا اشتد المرض عليّ وقد عانيت معاناة شديدة من الام البطن والمعدة دون اسعاف بأي علاج يذكر .. وكنت انهض في الصباح مبكراً حتى ادخل الحمام قبل الازدحام على  بابه ولان المرض اشتد عليّ وشعرت ان امعائي تتقطع بشكل لا يحتمل . وفي احد المرات وانا في داخل الحمام  نظرت من طرف الشباك وكانت غرفتنا في الطابق الثاني فشاهدت بعضاً من خيوط الشمس تتسلل لحجرتنا وما اجملها حينما كانت تخترق سعف النخيل المتراقص مع نسائم الصباح الجميلة … كان منظراً بديعاً .. ووقفت امام الشباك … لاناجي ربي قائلاً :: ياربي لقد تعبت .. يا ربي فرجك .. ياربي عونك … يا ربي خلاصك من هذا الجحيم .. ياربي فرج كربنا واطلق سراحنا .. ياربي انا تعبان… ياربي لا تحرمني مشاهدة امي .. ولا تحرمني مشاهدة أبي ومشاهدة اسرتي…  ياربي فرجك .. ونزلت دمعات ساخنة مسحتها بطرف كمي حتى لا يراني احد وخرجت من الحمام منسلاً الى بُرشي .

وكانت المفاجئة الروعة التي لم تصدق بعد اسبوع ، فقد تم  ابلاغي بتخفيض سنة من حكمي من خلال اللجان التي كانت  تبحث امر المعتقلين التي كانت بالتأكيد اتخذت قرارها في فترة سابقة ,  وبقي لي بعد ذلك  ستة اشهر بدل من سنة ونصف  لاجد نفسي بعدها في عالم مليء باحلام اليقظة  والخيال وبدأت افكر للمرة الاولى في حيثيات الخروج والاستقبال وشريكة العمر التي طالما ارتسمت صورتها في مخيلتي وكتبت عنها الكثير في خواطري كما كانت  في عروس البحر وبيتي العتيق وميلاد جديد … وشاء القدر ان تتحقق احلامي بما ارتسم في افكاري وتكون ام اياد جوهرة حياتي………..

الى عسقلان

وما هي الا ايام لاجد نفسي في قائمة نقل  مع الكتسين (أي الضابط) ليتم نقلي الى سجن عسقلان، وكانت لي فرحة في هذا الامر خففت من الامي لادخل عسقلان طالما سمعنا عنه كثيراً وهو القلعة الاولى  المعروفة  للشهيد الاول في المعتقلات عبد القادر ابو الفحم… انه قلعة المناضلين الاوائل .. ولكن لسوء حظي استمر عزلي في قسم للمواقيف ولم ادخل عند المعتقلين المحكومين.

ولم يكن الامر بالنسبة لي سهلاً واشتدت معاناتي في الستة اشهر الاخيرة … ولكن في هذا القسم كان لقائي بالعديد من الموقوفين وخاصة من ابناء القدس… وبدأنا نحن بعض المعزولين في هذا القسم نستغل وجودنا في تثقيف وتأطير هؤلاء الموقوفين لأذكر منهم المرحوم سليم الشلبي والاخ عبد القادر الخطيب وسمير المغربي ووحيد شبانه وغيرهم .. وعندما شاهدت ا دارة المعتقل هذا النشاط … وجدت ان وجودنا مع المعتقلين القدامى افضل لها من وجودنا بين المعتقلين الجدد.

فقامت بنقلي وبعض الزملاء الى سديانات عسقلان… الى جانب العمالقة .. الى عسقلان  بسيسو .. وابو علي شاهين .. ورمضان البطه … ومحمد لطفي ابو لطفي .. وعبد الله الاسكافي.. وعدنان محمديه.. وعمر القاسم وغيرهم من هؤلاء النجوم…

كنت في الايام الاخيرة ..  لا اعرف النوم ولا اعرف القراءة … وانما كيف ستكون حرارة الاستقبال على بوابة سجن عسقلان ومن ثم على بوابة قرية حزما .. وكان المشهد عظيماً عندما تذكرت مشهد والدتي في محكمة رام الله ومشهدها على بوابة عسقلان دون ان تعطي بالاً لاخ رابع لي دخل المعتقل وحكم ثلاث سنوات … انه اخي محي الدين وكان قدرها  ان لا تفارق بوابات السجون..

المشهد الأخير

في الانتفاضة الاولى وبعد مرور عام ونيف على  نيل حريتي وفك أسري…

كنت في اجتماع تنظيمي بقيادة لجنة الوسط(اقليم القدس) مع الاخوة حسن علوي وعبد الكريم صعايدة وصلاح زحيكه… ولم يمض على جلوسنا نصف ساعه والا بقوات كبيرة من الجيش تقتحم منزلنا ,  فيا لهول المفاجئة… فلم نكن نتوقع هذا الامر بتاتا في منتصف النهار فعادةً يتم الاعتقال ليلا ويبدو ان الرقابة علينا كانت على اشدها فانا كنت اعمل في صحيفة الفجر و صلاح في صحيفة الشعب وعبد الكريم في مؤسسة الهلال الاحمر وحسن علوي له مكتبة ومطبعة في رام الله…

ورغم نباهتنا والتخلص من بعض اوراقنا.. الا ان اهم ما في الامر هو سيطرتهم على الرسالة المعدّ ارسالها الى الخارج مع احد الاخوة وكانت بخط يدي وكانت الطامة الكبرى عليّ … ويكفي ان مقدمتها كانت تقول بعد مخاطبة الاخوة في القيادة والتحية والتقدير…

(بعد حملة الاعتقالات الواسعة لقد قمنا بسد كافة الثغرات وسنعمل على تأجيج جذوة  الانتفاضة في الارض المحتلة).. وقد سألني المحقق الكابتن ادم في المسكوبية اكثر من عشر مرات ماذا تعني جذوة الانتفاضة… وكانت الاجابة هي ما تشهده مدن وقرى ومخيمات فلسطين..

نعم كانت الانتفاضة الاولى بكل المقاييس تجربة فذة وبعد الافراج عني بعد عام  آثرت مع بدايات مدريد الالتحاق بالجامعات لاحقق حلم راودني طيلة سنوات اعتقالي .. لاحصل على شهادة الماجستير من جامعة دلهي في الهند ومع عودتي مع بدايات قدوم السلطة… كان موقعي في  اللجنة التنظيمية لاقليم القدس  وبعدها في اللجنة الحركية العليا ومن ثم لجنة الساحة وايضاً في لجنة القدس الخاص عملها بوضع القدس .

وكان ذلك حتى بداية الانتفاضة الثانية مروراً بانتفاضة النفق الذي تبوأ  فيها الأخ مروان البرغوثي مركزاً قيادياً وعملياً وميدانياً الى حين اعتقاله … فرج الله كربه وفك اسره…

ومع بدايات عام 2002 حصلت على منحة دراسية لنيل شهادة الدكتوراه في جامعة القاهرة بمساعدة الاخ غازي فخري المستشار الثقافي لسفارة فلسطين في القاهرة وقد ناقشت رسالتي في 31/5/2007 بعنوان السياسة الامريكية تجاه القضية الفلسطينية فترة كلينتون وهي باشراف الدكتور حسن نافعة والمعروف وطنياً وقومياً وعالمياً كخبير ومتخصص في العلوم السياسية . وكان رئيس لجنة المناقشة وعضوية الاستاذ الدكتور احمد يوسف احمد  استاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة والدكتور صائب عريقات الذي جاء مشكوراً كعضو خارجي والذي شرفني حضوره ويكفي ما قاله عن رسالتي وما قاله عنه  د. حسن نافعه انه اتي به كحجة لوقائع مفاوضات الكامب ديفيد…والذي قال: (يا اخي حسن لو لم اكن في المفاوضات لقلت انك كنت معنا في الغرف المغلقة ( ورد عليه د. حسن نافعه هذا ما اريد ان اسمعه منك…..ويكفيني هذه الشهادة لهذه الرسالة ).

كانت المناقشة بحضور سفيرنا في القاهرة الاخ  ابو العز واعضاء السفارة والاخ محمد صبيح مندوب فلسطين في الجامعة العربية ونائب رئيسها والاخ سعيد يقين وعدد من الطلاب الفلسطينيين من أبناء قريتي والأخ ابراهيم علامة ومن الشعراء والكتاب والادباء والصحفيين ويكفيني فخراً حضور " عمي " الاستاذ الدكتور يعقوب ابو حلو الذي كان يشغل عميد كلية التربية في جامعة عمان العربية..

مرة اخرى من جانب تنظيمي عندما عقد المؤتمر الحركي العام السادس تم انتخابي عضواً في المجلس الثوري لحركة فتح وما زلت امارس مهامي التنظيمية في عدة لجان حركية اضافة الى مهامي الوظيفية  التي تدرجت بها من مدير في وزارة الشؤون الاجتماعية الى مديراً عاماً في وزارة الشباب والرياضة الى وكيلاً مساعداً في وزارة شؤون القدس ومن ثم وكيلاً مساعداً في وزارة الشباب والرياضة  واخيراً شرفني الاخ الرئيس ابو مازن بتكليفي وكيلاً لوزارة العمل … وما زلت على رأس عملي حتى الان …

مع ممارستي لمهنة التدريس بشكل جزئي ايام السبت في جامعتي القدس والجامعة المفتوحة حيث ادرّس بعض المساقات لطلبة الماجستير ومساقات اخرى لطلبة الدرجة الاولى .

اخيراً احمد الله الذي مكنني من انجاز بعض مهماتي وتحقيق جزءاً من اهدافي طالما حلمت بها طيلة حياتي… فلم تحل دونها قيودي واغلالي ولا السنوات العشر من اعتقالي…

شارك المقال عبر:

نشرة ورقة علمية للدكتور عبد العزيز القنطار
إصدار جديد للـ أ.د. حسام الدين عفانة: الجزء السابع عشر من كتاب “يسألونك”

آخر الأخبار

ربما يعجبك أيضا

Al-Quds University