الاسير المحرر المناضل محمد البيروتي يروي مأساة " أسرى الشام "
أسرى محررون منذ عام 1985 داخل الوطن وخارجه لم يتم انصافهم حتى اليوم !!
هم الأسرى مجددا، بتاريخهم النضالي وعطائهم وتضحياتهم ومعانياتهم وصمودهم الأسطوري، واذا كانت قصة الاسر تنطوي على هذا القدر من المعاناة والالام والصمود والابداع في ذات الوقت فان حكايات الاسرى المحررين تنطوي ايضا على مفارقات عدة، لعل ابرزها عدم انصاف البعض منهم حتى الآن سواء ممن تحرروا خارج الوطن او داخله فيما حصل اخرون على كافة حقوقهم بل انهم يتبوأون مناصب رفيعة اليوم في السلطة الوطنية وهم الذين تقاسموا لسنوات طويلة معا الآم الاسر وحققوا بتضحياتهم ونضالاتهم اسطورة االاسير الفلسطيني.
وفي هذا السياق يقول الدكتور فهد ابو الحاج مدير عام مركز ابو جهاد لشؤون الحركة الاسيرة في جامعة القدس ان الوقت قد حان لانصاف الاسرى المحررين سواء خارج الوطن او داخله ممن تم الاجحاف حتى الآن بحقهم اسوة بباقي زملائهم الأسرى المحررين.
ناشد الدكتور فهد ابو الحاج مدير عام مركز ابو جهاد لشؤون الحركة الاسيرة في جامعة القدس ، سيادة الرئيس ابو مازن لانصاف عدد من الاسرى اللذين خرجوا في صفقة التبادل عام 1985 ، وعادوا واستقروا في سوريا او ما اصطلح على تسميتهم ب " اسرى الشام " ،واعطائهم الحقوق المالية المترتبة لمن في مثل اوضاعهم .
واضاف بأن هؤلاء الاسرى كان لهم الفضل الكبير في نجاح تجربة الحركة الاسيرة في سجون الاحتلال ،وتنظيمها واخراجها بكل ما اشتهرت به من نجاحات ، وان كل الاجيال التي عاصرت السجون تدين لهم بما قدموه من تضحيات ، وختم بأنه على ثقة تامة بأن سيادة الرئيس سيعمل وباسرع وقت ممكن على انصافهم واعطائهم لحقوقهم .
جاءت تصريحات د . ابو الحاج هذه في معرض تناول مركز ابو جهاد لقضية هؤلاء المناضلين واللذين ومن اجل الوقوف على ادق تفاصيل وحيثيات قضيهم وكيف بدأت قصتهم والتعرف على سيرهم النضالية وتاريخهم النضالي لا سيما دورهم البارز في معتقلات الاحتلال ،وتفاصيل اخرى فقد التقى طاقم المركز مع من عايش هؤلاء في كل محطاتهم والم بكل صغائر حياتهم حلوها ومرها ،وهو الاسير المحرر المناضل محمد البيروتي ، مسجلا معه الحوار الاتي …….
س : في البدء من هو محمد البيروتي وما هي اهم محطات سيرته الشخصية والنضالية ،لا سيما الاعتقالية ؟
ج محمد احمد البيروتي ،لاجئ من قرية في اسفل السفوح الغربية لجبل الخليل، قرية صميل التي هجر اهلها عام 1948، وتفرقوا بين مخيمات الفوار والعروب والوحدات، ولدت في بيت لحم، والدي كان عاملا نشطاً، تمكن خلال سنوات من تكوين حالة ميسورة على الرغم من أن سكان قريتنا تركوا كل املاكهم وأموالهم خلفهم.
عندما اندلعت حرب 1967 كنت في مخيم الوحدات، تعرفت على مأساة الحرب من خلال خالي الذي كان سائق سيارة عسكرية في الجيش الأردني، تركت الحرب اثرها الكبير على نفسية ابناء المخيم، في تلك الفترة شاهدنا الفدائيين لأول مرة، وبدأنا نتعرف على السياسة والقضية الفلسطينية، كان مشهد السلاح في الأيدي مؤثرا، وتمنيت، مثلي مثل كافة ابناء المخيم، ان أكون واحدا من هؤلاء الرجال الرائعين، يجب ان أشير الى انني في تلك الفترة لم أكن رجلا، كنت ما زلت طفلا، ولكن في تلك الأيام، كانت الطفولة تنتهي باكرا.
المشاهدة الاكثر اثارة للانطباع، حدثت بعد معركة الكرامة، عندما جيئ بجثث الشهداء، ما زلت اذكر عددهم، 96 شهيدا، ربما 92، كانوا كلهم من فتح باستثناء 12 من جيش التحرير، خرج المخيم عن بكرة ابيه الى الجنازة، كانت جنازة مهيبة، مؤثرة، امتلأت حماسا، في الأيام التالية شهدت مراكز حركة فتح اقبالا شديدا على التجند، كنت من هؤلاء، نظرا لصغر سني فقد جرى الحاقي مع الاشبال، وتلقيت دورة تدريبيبة في معسكر السخنة قرب الزرقاء، وهناك جرى قصفنا بالطائرات للمرة الأولى، كانت هذه أيضا تجربة مؤثرة تماما.
منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، تحدد مصيري نهائيا، بارتباط وثيق مع الثورة الفلسطينية، واحدا من الاشبال، والميليشيا، ومن ثم التنظيم السري بعد خروج الثورة من الاردن، وهاربا بعد ذلك نحو لبنان وسوريا مقاتلا في صفوف الحركة، مشوارا قصيرا في عدد السنوات، لكنه طويل جدا من حيث الاحداث.
اعتقلت عام 1974 في قرية التياسير قرب طوباس، كان اعتقالا سخيفا يمكن تلافيه، لم يكن بحوزتنا حينها سلاح حيث كانت مهمتنا الاساسية مهمة تنظيمية لا قتالية، الصدفة المحضة لعبت دورها، والاخطاء بالوثائق التي لدينا والارهاق والمرض الذي اصابنا وضعف التفكير الآني في لحظة الاعتقال.
قضيت في السجن احد عشر عاما، كانت اعواما مثمرة، تعرفت خلالها على كم هائل من الرجال الرائعين، مقياسا بحالة السجناء قبل عام 1972، اظن انني دخلت الى مدرسة ثورية مغلقة الابواب، حيث سادت روح الاخوة والتعاون والتفاني، ونكران الذات، وكان السجناء خلال الفترة السابقة على اعتقالي قد خاضوا مجموعة اشتباكات فعلية مع ادارة السجون، مواجهات واضرابات، انتهت بالحالة التي وجدتها، ففي سجن السبع، وجدت حكما ذاتيا للسجناء، وقد قارنتها لاحقاً مع الكميونات الاشتراكية التي جرت محاولات انشائها في مناطق مختلفة من العالم، كان سجن السبع كميونة اشتراكية تعاونية ديمقراطية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
س : ما هي منطلقات اثارتك لقضية عدد من الاسرى المحررين بعد مضي كل هذه السنين ؟
ج : ان موضوعهم يؤرقني، انهم اخوة لنا شاركونا قواعد الثورة، واحلك لحظات المواجهة في سجون الاحتلال، كانوا قدوة وقادة يشهد لهم الجميع بذلك، عندما افرج عنا في صفقة التبادل عام 1985، توجهوا من ليبيا نحو سوريا، ملتحقين بالمنشقين من حركة فتح، اثنان عادوا الى سوريا بسبب وجود عائلتهيما هناك، هما محمد الغربي وهو سوري من اجسم قضاء الجولان وعدنان محمدية من مخيم النيرب.
لا شك ان خروج البقية الى دمشق كان خاطئا، لكنهم بخروجهم ذلك اعطوا انفسهم اكتشاف خطئهم، وهذا ما حدث، حيث انشقوا عن الإنشقاق. لكنهم ظلوا في سوريا بحكم عدم وجود اي نوع من الوثائق لديهم.
انهم يعيشون الان حالة من الفقر المدقع والاهمال، وأرى انه يجب ان يتم انصافهم ولو متأخرا، بإعادتهم الى القيود العسكرية، ولو متأخرا ايضا .
وقبل ان نتطرق الى الكلام التفصيلي حول قضيتهم اود الاشارة الى انني قمت في يوم 18 تموز الحالي، بزيارة لسيادة اللواء محمد يوسف مدير عام التنظيم والادارة بهذا الصدد، وقد وعد بإنصافهم عبر موازاتهم مع الساحة الاردنية، إذا تم ذلك، سوف نكون شاكرين لسيادة اللواء، ليس على مستوى الخمس المشار اليهم، بل على مستوى قطاع الاسرى المحررين بكاملة.
س : هل نحن امام حالة نضالية لعدد من كادر الثورة الفلسطينية تم الاجحاف بحقها كل هذه السنوات ، ، وهل لك ذكر آخر علامات هذا الاجحاف ؟
ج : لقد توفي قبل ثلاثة اعوام، في غرفة حقيرة في مخيم النيرب، وفي حالة تامة من الفقر المدقع، والمرض المستشري، واحدٌ من قدماء الأسرى الفلسطينيين، ممن شهد لهم تاريخ العمل العسكري جرأة فائقة وتضحية لا تضاهى، وشكل في السجون الإسرائيلية نموذجا فذا للتحدي والمواجهة مع السجانين ودفاعاً شرسا عن أخوته في المعتقلات، بحكم القوة التي حباه الله بها. وإذا كان هناك من مأثرة بذلك (في زمن المآثر الكبرى) فلكونه قد حدث بالذات في أحلك الأوقات التي شهدتها السجون الاسرائيلية في بداياتها المظلمة، حيث مرحلة ما قبل نشوء التنظيمات في السجون، وسيادة القمع والاذلال.
كان المرحوم عدنان محمدية قد أطلق سراحه في العشرين من شهر أيار عام 1985، ضمن صفقة التبادل، والتي على أساسها تم اطلاق سراح ألف ومئة أسير كلهم محكومون بأحكام عالية من السجون الإسرائيلية، القسم الاكبر منهم أعد نفسه منذ بداية اعتقاله لاحتمالية انه قد لا يغادر السجن أبدا، وهو الأمر الذي ثبتت واقعيته حتى يومنا هذا ممثلا ببعض من تأخر الإفراج عنهم في الصفقة ذاتها، كالمناضلين الكبيرين نائل البرغوثي وابن عمه فخري البرغوثي والذين اطلق سراحهما بعد ستة وعشرين عاما على ذلك التاريخ، وثلاث وثلاثون عاما على بدء اعتقالهما، والذين ندين لهما ولبقية الاسرى ليس بالإعتذار، بل بالخجل المفرط كوننا عشنا حياة كاملة خارج السجن وتزوجنا وانجبنا اولادا وبناتا، وبعضنا بنى ثروات وتقلد مراكزا ونال جاها وعزا، وارتدى بذلاته التي تحمل ماركة أرماني وطوق معصمه بساعة روليكس، بينما كانا مستلقيين على ذات حشية الاسفنج الصلبة في ذات الغرف التي حوتنا جميعا ذات يوم.
عدنان محمدية كان واحدا من ثمانية محررين غادروا باتجاه الشام بعد اطلاق سراحهم، وقد جمعتهم عدة عوامل، انهم شكلوا إبان سجنهم حالة نوعية مميزة، وضربوا أمثلة راقية في الوعي، والصمود، والقدوة الحركية الحسنة وقيادة المعتقلين نحو بناء تنظيم فاعل داخل السجون.
س : ما هو الحدث الذي جعل من هؤلاء يهملوا كل هذه السنين ؟
ج: العامل الذي ترك أثره الواضح على مستقبلهم، هو كونهم قد انحازوا في إحدى مراحلهم لقادة الإنشقاق، ويمكن القول أنهم على الرغم من وعيهم المتفوق، وربما بسبب ذلك، خدعوا بالشعارات التي اطلقها قادة الانشقاق، فقد شكلوا في مراحل مختلفة من عمر الحركة نهجا مميزا وآمنوا بشدة بحق الشعب الفلسطيني بترابه كاملا. ربما شكلت هذه العوامل دافعهم للإلتحاق مجددا بركب العمل المسلح والثورة الشعبية (كما ظنوا).
إثنان من هؤلاء كان محتما عليهم العودة الى الشام، عدنان محمدية بحكم كونه من مخيم النيرب حيث تعيش أمه وذويه، ومحمد سليم الغربي المناضل العربي السوري من قرية إجسم على حدود الجولان. أما الستة الاخرون وهم أحمد ابو هدبة وقد قضى 17 في السجن، صالح أبو طايع 17 عاما، مجاهد حسن (حسين سالم موسى الكتيفي) 11 عاما، عوني السيسي 11 عاما وقد عاد حديثا الى غزة، ونمر سمير قدورة 15 عاما، والمرحوم الذي قضى قهرا وربما مات قتلا مباشرة بعد وصوله دمشق (بدران حماد)، فقد التحقوا بالشام للدوافع التي اشرنا اليها أعلاه.
س : ما هي الامتيازات على وجه التحديد التي تم حرمانهم منها ؟
ج : لقد تم حرمانهم من كافة المنح والامتيازات التي تمتع بها سائر الاسرى المحررين منذ تحررهم، وهنا نذكر ان المحررين على اختلاف تنظيماتهم، نالوا حال اطلاق سراحهم مساعدات مالية أمنت للعديد منهم طريقا جيدا للاندماج مجددا في مجتمعاتهم وعائلاتهم، كما نالوا رتبا ورواتب وسرعة الإنضمام مجددا للعمل النضالي. مجموعة الشام السباعية هي فقط من بين 1100 محرر تم حرمانهم من كافة المنح والرواتب والإمتيازات، بما فيهم المحررون من مختلف التنظيمات ممن كان يطلق عليهم حينها جبهة الرفض.
وفي حديث مباشر، أشار أحدهم، وهو يعاني حاليا من عدد من الأمراض، إضافة الى العديد من المشاكل المالية ونقص الغذاء والمسكن، الى انه لو تم إعطائهم المنحة الاولى ومنحة الزواج التي تلقاها غيرهم من المحررين، لكان بوسعهم في ذلك الوقت (1985) شراء بيت في مخيم اليرموك أو في ضواحي دمشق، واستطرد قائلا، أنا أعلم أن هناك من أصدقائنا القدامي من وقف في طريق تحويل هذه المستحقات التي اعطيت لكافة الأسرى بدون استثناء، عندما وزع المبلغ (2000) دينار اردني، أي ما يعادل سبعة آلاف دولار وفق سعر الدينار عام 85، كان بوسع المبلغ والذي يعادل 350.000 ليرة سورية آنذاك شراء شقة مناسبة لكل منا، كان الأمر سوف يوفر علينا عناء التنقل الدائم والبحث الدائم عن مكان يأوينا والقلق الدائم على مصير أولادنا وزوجاتنا.
واستطرد قائلا، قبل ثلاث أعوام توفي أحدنا، جميعكم تعرفون عدنان محمدية، جميعكم تعرفون ان تاريخه العسكري والإعتقالي لم تشبه شائبة، ومع ذلك فقد مات عدنان محمدية وهو محمل بالعديد من الامراض التي لم يجد لها علاجا، فعدنان محمدية شأنه شأن جميعنا، لم يكن يملك سوى وثيقة لم تؤمن له مكانا يدفن فيه، وقبل أن يموت لم تؤمن له سريرا في مستشفى حكومي يعالجه، أما العلاج الخاص فهو بعيد المنال لارتفاع تكلفته، موت عدنان محمدية ترك في قلوبنا حسرة كبيرة، كوننا جميعنا نحمل نفس المصير.
ويستطرد قائلا فيما مضى حاولنا أيجاد حلول لمشاكلنا المالية، أنا شخصيا اشتغلت مع عدنان محمدية في مجال جلي البلاط، كان الأمر يتطلب منا حمل الاداة الثقيلة طوابق عديدة، ففي الشام ما زال العمل اليدوي سيد الأعمال، كان الامر شاقا علينا وما جعل الأمر ممكنا هو القوة الجسدية التي امتلكها عدنان محمدية، أما الدخل المتأتي فقد كان قليلا. ولم تكن اجسادنا التي اجتازت تجارب القواعد والسجون ومرور الزمن بقادرة على مواصلة العمل، هذه التركيبة ردعتنا عن القيام بمحاولات جديدة.
ويجيب على سؤال جوهري ، هل نشعر بالندم؟ كلا بالطبع. عندما حكمنا بعشرات المؤبدات على خلفية انتمائنا لفتح لم نشعر بالندم، لم يخطر ببالنا أبدا ان التحاقنا بحركة فتح وقوات العاصفة سوف يترتب عليه ندم، كنا طوال فترة العمل العسكري مشاريع شهادة، قالوا لنا في التحقيق في زنازين المخابرات الاسرائيلية إننا سوف نتعفن في السجن، الجميع يعلم ان فترات التحقيق هي من أكلح الفترات التي يمر بها الإنسان، ومع ذلك وقفنا بصلابة ولم نشعر بالندم، الندم هي آفة علمتنا حركة فتح انها لا تليق بنا. عندما التحقنا بالمنشقين في الشام فعلنا ذلك لقناعتنا ان الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين وانه لا طريق اخرى غير ذلك، أردنا فقط مواصلة الطريق الذي بدأناه قبل الاعتقال. والسؤال هو، هل وجدنا أحدا هنا يسير على هذه الطريق؟ كلا لم نجد، والأهم من ذلك اننا علقنا، كأننا وقعنا في مصيدة.
س : لمذا سكت هؤلاء عن المطالبة بحقوقهم كلل هذه السنوات ،و ما هي الاسباب الحقيقية التي تقف وراء عدم انصاف هؤلاء المناضلين الى غاية الآن ؟
ج : لم يسكتوا بل ظلوا يطالبوا ويتابعوا ولكن بلا جدوى ،و ساذكر ما قاله احدهم في هذا السياق " لقد طالبنا مرارا بتسوية وضعنا على نطاق منظمة التحرير، أسوة بالأسرى المحررين في مختلف الأماكن، وبالذات بعد نشوء السلطة الوطنية باعتبارها تمثل جميع الفلسطينيين، وجدنا مناصرين كثر، لا نبالغ اذا قلنا ان كل الأسرى المحررين والذين رافقونا سنوات السجن قبل عام 1985 وقفوا الى جانبنا وقدموا مطالبات الى المستويات الرسمية من أجل اعتبارنا أسرى محررين، هؤلاء هم الجيل الذي عاصرناه في السجون، وهم الجيل الذي تحمل عبء بناء التنظيم داخل السجن، وعبء النضال الشرس من أجل خلق واقع يليق بالمعتقلين اللاحقين ".
وتابع قائلا " المشكلة ان هؤلاء لم يكونوا يوما أصحاب قرار، اصحاب القرار من زملائنا ممن اعتقلوا لاحقا وتحرروا معنا لم يفعلوا شيئا، هذا في أحسن الأحوال، لدينا تأكيدات أن بعضهم شكل عامل صد أمام الفرص التي فتحت أمامنا ، وطبعا توجهنا الى سيادة الرئيس محمود عباس بطلب انصافنا، لم نتلق ردودا حتى الآن ونعتقد كما يعتقد زملاؤنا في فلسطين أن طلباتنا تم الحجر عليها قبل دخولها الى سيادة الرئيس، وتوجهنا الى وزراء الأسرى جميعهم لتسوية وضعنا وفقا للتفاهمات التي تمت في حكومة السلطة الوطنية بصرف راتب تقاعدي لكل من قضى 5 سنوات داخل السجن، نحن قضينا أضعاف هذا الزمن والجميع يعرف ذلك، كما ابلغنا من اصدقائنا المهتمين بقضيتنا اننا وجدنا آذانا صاغية وحماسا لانصافنا، لكننا لم نجد فعلا مجديا (فعمر الحماس لدى المتنفذين وأصحاب القرار خمس دقائق لا غير) ".
الاسماء التي تدخلت لصالح إنصاف الضالين من اخوتنا في الشام كثيرة، ما يميز هذه الأسماء انها كلها عاصرت الجيل الاول للاعتقال وتركت بصمات هامة في المسيرة الاعتقالية، وإذا شئنا التعداد فلربما كان ممكنا ملء صفحات من أربع أعمدة وجميعها ترفع هذا الاستفسار المؤلم: اذا كانت قلوب ابناء فتح مفتوحة لمصالحة كبرى مع خصوم الحركة من كل الاطياف، فلم هي اذا صماء الى هذا الحد مع الاتجاهات المختلفة داخل الحركة؟
نحن نتكلم عن عشرات المحاولات، عشرات المحاولات الفاشلة والتي لم نكل من تكرارها لاننا نعلم مقدار الفاقة التي يعيشها زملاؤنا، وكلما اقتربنا من تحقيق هذا الهدف البسيط وجدنا في النهاية بابا مغلقا. من أغلقه لا ندري، لكن الأصابع تتجه دائما نحو أصحاب النفوذ من زملائنا، ففي المحصلة ليس في يدنا لا طول ولا حول. ربما كان لنا نفوذ كبير داخل المعتقلات، أما هنا فلا.
ونرى انه لزاما علينا توضيح بعض الأمور، فصفقة الإفراج هذه التي تمت على يد أحمد جبريل – خصم فتح اللدود، انجبت جيلا كاملا من القادة الذين تربوا بمعظمهم داخل السجون، واكتسبوا معارفهم ومهاراتهم القيادية التي أهلتهم لاحقا لتبوء المناصب العليا في مؤسسات السلطة الوطنية وفي الهرم الحركي العام. وكرست في أيديهم قوى كبيرة وجعلت لهم مكانة مرموقة، والكثير منهم تبوأوا المراكز الاقتصادية الهامة. أوضاعهم الحالية هي في المحصلة نتاج ما تلقوه في السجون من تربية ومعارف، يعود الفضل الاكبر فيها الى جيل الرواد الأوائل من أسرى الدوريات والذين كرسوا حياتهم الاعتقالية في أصعب لحظاتها من أجل بناء حياة تنظيمية، متحملين بذلك اقسى العقوبات وعمليات القمع الوحشي التي صاحبت تضحياتهم تلك.
س : هل لك ان تذكر لنا وبشيء من التفصيل ابرز اسهامات هؤلاء المناضلين ومن عاصرهم في سجون الاحتلال ؟
ج : لمن لا يذكر، فإننا نُذكِّر بأن السجون الاسرائيلية أصبحت محتملة فقط بعد عام 1972، اي بعد اضراب عسقلان الكبير وما صاحبه من اضرابات في سائر السجون، لمن لا يذكر (وأنا حصرا من بينهم) فقد جئت إلى بئر السبع عام 1975، فوجدت بعد ان اجتزت بوابات الحراسة ومختلف اصناف السجانين، غرفا مكتظة بالسجناء الترحابيين، شبانا بأغلبهم، ما أن رأينا وجوههم حتى تبخر الخوف الناجم عن اكتشاف واقع مجهول، وجدنا غرفا نظيفة خالية من البق والحشرات الضارة، وجدنا من زحزح على الفور حشيته لكي يفسح لنا مجالا نضع فيه حشياتنا، وجدنا من قدم لنا على الفور شايا ساخنا وحديثا طيبا ومستمعين مذهلين، ووجدنا ما هو أهم من ذلك، إحساسا بالأمن في بيئة بحكم طبيعتها لا توفر الا انعدام الأمن، هذا هو بئر السبع في منتصف السبيعنيات، وعندما اجتزنا بوابه الى عسقلان بعد ذلك، وقد كنا أكثر أدراكا وتمرسا، واجهتنا ذات الوجوه وذات المشاعر، وحيثما تنقلنا وتنقل غيرنا، كانت غرف السجن بمثابة البيت الآمن، كان السجناء اليافعون بمثابة الأخوة الممتلئين محبة، الراغبين أبدا بالمساعدة.
تلك كانت أخوية السجون، وهي لم تلد هكذا، وبالتأكيد لم تأت منَّة من سلطات السجون وسفاحيها، لؤلئك المتأخرين، اي من هم على شاكلتي، الذين لم يحدث لهم ان عانوا قسوة المعتقلات في بداياتها، ولم يتعرفوا على أسماء الجلادين القساة من أمثال حايوت وجورنو وزيتون ويودا، ولم تجرب جلودهم عصي الطغاة الذين استمتعوا (وبلا مبالغة) بتعذيب السجناء، ولم تجرب وجوههم اللطم من أكف السفاحين، اولئك الذين لم يجربوا تلقي الإهانة مع صحن الطعام المكون من بزر المكانس (لم أذق طعمه يوما). طبعا نحن لا نتكلم عن فترات التحقيق باعتبارها فترات محتومة بالتعذيب، بل نتكلم عن فترات ما بعد صدور الأحكام، والتي يفترض بها ان تكون خالية من التعذيب، لؤلئك المرفهين بالمقاييس النسبية لما بعد 1972، أقول، نجاتكم من هذه المرحلة جاءت نتيجة لتضحية من سبقوكم.
والكلام بلا أسماء كلام ناقص، لكن إيراد الاسماء يتطلب مساحات واسعة على الورق، لننظر الى رجالات المرحلة الأولى – الخط الأول في المواجهة، أولا يجب ان نعرف انهم كانوا من طلائعيي القتال في خنادق العاصفة، (الحديث مقصور هنا فقط عن رجالات فتح – لغاية لا تخفى على القارئ)، اي قبل ان تصل أطوالنا مسافة كافية لحمل السلاح او الإندماج بالثورة، وكانوا من رواد البنادق والقتال غير المشروط الا بطلب الشهادة كرجاء خالص من الله، اولئك الذين تركوا خلفهم نساء وأطفالا وأجنّة لم تلد بعد، فهم من هذه الجهة لهم فخر السبق النضالي المنزه عن اي منفعة أو مصلحة.
هؤلاء هم رواد العمل الفدائي داخل الأرض المحتلة – ولهذا السبب اسشهدوا وسقط منهم الكثير جرحى وأسرى ، وهم من صنع تجربة الصمود في السجون وتحدي أجهزة المخابرات والاستخبارات والسجانين وكل التسميات ، وهم من واجه القمع الوحشي في السجون وجعلوها من مكان خطط لكي يكون بؤرة للفساد والخيانة الى مدرسة للنضال والثورة والعلم ، وهم من مهد الطريق لاستقبالنا لاحقا (على أكف الراحة) لنمارس عيشا محتملا في سجون لم تكن قبل ذلك محتملة، لكي نتعلم على أيديهم وننتظم ولا نخشى على انفسنا من مفتولي العضلات وأرباب العصابات، لنطمئن اننا سوف نخرج كما دخلنا، مرفوعي الرأس شامخي الهامة.
نحن على اختلاف مراكزنا، ندين لهذا الجيل بالكثير، أو لمن تبقى منه، فقد مات الكثير منهم عبر سنوات الزمن، وهرم الاخرون وتآكلت اجسادهم تحت وطأة المعاناة السابقة والسكري والضغط وآلام الظهر والرقبة والقرحات التي لم تعالج.
لهؤلاء نذكر، رجالات الشام المنبوذين هم من الرعيل الاول – الرعيل الذي منحكم الحماية والثقافة والانتظام والأمل، كل منا يحمل في عنقه دينا لهم، وهو دين واجب السداد لمن استطاع اليه سبيلا.
وفي الختام اود ان اوجه رسالة شكر خاصة للواء محمد يوسف، مدير التنظيم والإدارة والذي استمع باهتمام بالغ لقضية اسرى الشام، واعدا بحل هذه المشكلة، ربما قبل نهاية شهر رمضان الفضيل، مؤكدين، أن حلا متأخرا، خير من لا حل أبدا، آملين أن يشعر أسرى الشام، قبل ان تنالهم المنية، ببعض الانصاف، والتسامح، والعفو.
زيارات المركز
فقد زار المركز وفدا من مؤسسة الاراضي المقدسة المسيحية المسكونية ضمن مشروع "اعرف بلدك " والذي تقوم عليه المؤسسة ويهدف الى ربط الشباب الفلسطيني المقيم بالمهجر بجذوره الفلسطينية ،والذي يعد مركز ابو جهاد شريكا اساسيا فيه بالاضافة الى مؤسسات وطنية اخرى ، حيث يغطي المركز جانبا هاما من الفعاليات عبر زيادة المام واطلاع الشباب في المهجر حول كل ابعاد قضية الاسرى في سجون الاحتلال الاسرائيلي .
وكان باستقبال الوفد د. ابو الحاج والذي رحب بهم مبينا اهمية ان يعي الشباب الفلسطيني هذه القضية الهامة ،لانه من خلالها نستطيع الاحاطة بكل جوانب القضية الفلسطينية والثورة الفلسطينية الحديثة ،ومطالبها العادلة باقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف ،وعودة اللاجئين واطلاق سراح كافة الاسيرات والاسرى .
وقدم د. ابو الحاج شرحا تفصيليا لما يحويه المركز من مقتنيات والتي قال عنها انها تأخر لتجربة المناضلين في السجون الاسرائيلية وايضا من سبقهم في سجون الانتداب البريطاني ، وان المركز يهدف الى ايصال رسالتين اساسيتين الاولى وتعكس حجم الظلم والاجحاف بحق الاسرى والممارسات المتوحشة بحقهم من قبل دولة الاحتلال ،والثانية ابراز نجاح الاسيرات والاسرى بتجاوز كل المحن ونجاحهم بتسجيل تجربة فريدة من نوعها على المستوى العالمي ،عبر ما صاغوه من كتابات بكل الحقول ،والتي يقوم المركز على جمعها وحفظها وتقديمها بافضل صورة ممكنة ليحتضن اول مكتبة الكترونية خاصة بادب الحركة الاسيرة على المستوى العالمي .
وختم د . ابو الحاج بتوجيه رسالة للشباب الفلسطيني المقيم بالمهجر بضرورة احتضان القضية الفلسطينية والترويج لها بكل الوسائل الممكنة كل من موقعه وبعلاقاته واساليبه المختلفة ،لا سيما التركيز على القضية الاكثر ايلاما قضية الاسيرات والاسرى اللذين لا يزالون في سجون الاحتلال .
وفي ختام الزيارة قام اعضاء الوفد بشكر د. ابو الحاج على الانجاز الوطني الكبير المتمثل بانشاء مركزا خاصا بالاسرى ،وقدموا له هدية ،عبارة عن "مفتاح العودة تقديرا لجهوده المتميزة بخدمة القضايا الوطنية .