الأسيرة المحررة نادية الخياط تروي محطات هامة من تجربتها النضالية والإعتقالية
فيما يسمع العالم ويرى ما يتعرض له الشعب الفلسطيني وآلاف اسراه تتواصل بصمت معاناة والآم آلاف الاسرى والأسيرات الفلسطينيين داخل سجون ومعتقلات ومراكز تحقيق الاحتلال الاسرائيلي الى درجة ان خطرا حقيقيا بات يتهدد حياة العشرات من الاسرى المرضى والمضربين عن الطعام وسط ظروف مأساوية تفرضها ادارة السجون .
ووسط مخطط منهجي اسرائيلي لإعادة اوضاع الحركة الاسيرة الفلسطينية عقودا للوراء تسحب كل مكتسباتها وانجازاتها وتصعيد واضح من قبل سلطات السجون ضد الاسرى في نختلف اماكن احتجازهم . وفي هذا السياق يقول د. فهد ابو الحاج مدير عام مركز ابو جهاد لشؤون الحركة الاسيرة في جامعة القدس بان الوضع بات مهددا بالانفجار بان الاضراب المفتوح عن الطعام الذي اعلن الاسرى امس اعتزامهم خوضه اذا ما تواصلت هذه الممارسات الاسرائيلية ضدهم بشكل ناقوس انذار ونداء عاجل لكل ابناء شعبنا وقواد الوطنية وقياداته بالتحرك السريع والجاد لنصرة الاسرى ولإسماع العالم اجمع الصرخة المدوية التي انطلقت من خلف جدران الزنازين والمعتقلات.
وأضاف ان الوقت قد حان ليقف الكل الوطني وقفة جادة مع الذات والتحرك بشكل فاعل لإنقاذ حياة الاسرى الذين ضحوا بكل ما يستطيعون من اجل حرية شعبنا وحقه بالحياة الكريمة.
السيرة الذاتية
نادية الخياط، من مواليد العام (1958) وسكان مدينة رام الله، وتحمل درجة البكالوريوس في القانون، وكانت تعمل في وزارة الإقتصاد الوطني وحاليا هي(متقاعدة) حكمت مؤبد وعشرون عاما وأفرج عنها في عملية تبادل أسرى حيث تم إبعاد كل المفرج عنهم أسرى وأسيرات خارج الوطن ، وأمضت ثلاثة عشر عاما قسريا في الأردن ،وعادت الى أرض الوطن بعد إتفاقيات اوسلو سنة 1996 ، نشأت نادية الخياط في بيت ينبض بالوطنية، وقد مر على هذا البيت الكثير من المآسي، وتعرض ساكنيه للإعتقال، بدءاً من أخي الأكبر(فايز) الذي استشهد في معركة قلعة الشقيف في لبنان أثناء وجودي في المعتقل- كما تقول نادية الخياط متابعة حديثها معنا-، وكنت حينها في العاشرة من عمري مروراً بأختي الكبرى(نائلة) والتي كانت مثلي الأعلى، ولطالما إعتبرتها أماً ثانية لي، وأنا في الحادية عشر من عمري، وإنتهاءاً بكل أفراد العائلة وانا في الثانيةعشر من العمر .
كل هذا جعلني استعجل الزمن لأكبر بسرعة وأنتمي لأي فصيل يحقق لي طموحاتي في مقاومة هذا العدو الشرس الذي سبب لنا ولأصدقائنا وأحبابنا وجيراننا كل هذا الألم، أصبحت أشارك في كل الفعاليات الوطنية في البلد، من مظاهرات وإعتصامات ومسيرات، حتى أنني كنت أقوم بتوزيع المناشير لأي حزب أو فصيل يطلب مني ذلك دون الإلتزام أو الإنتماء لأي منها، وذلك من شدة لهفتي وتعطشي للقيام بأي عمل ضد الإحتلال، كنا نقوم بكثير من الأعمال التطوعية في ذلك الحين فقد كان العمل التطوعي هو أكثر الأعمال جذباً للشباب من كلا الجنسين لأنه كان يعمل على تفريغ بعض الطاقات لدى هؤلاء الشباب في أعمال مفيدة للبلد مثل تنظيف شوارع في المدن، أو فتح شوارع في القرى، أو زراعة أراضي أو المساعدة في قطف الزيتون والكثير الكثير من الأعمال الرائعة، وكانت فرصة الفصائل والأحزاب لإستقطاب فئة الشباب للإنتماء، وكل فصيل وجهده الخاص في انتقاء طبيعة العمل التطوعي وإختيار الأمكنة المناسبة، وقد كان التنافس على أشده ولكنه تنافساً شريفاً وايجابياً ومنتجاً.
الإعتقال الأول.
وكان لمدة يوم واحد من الساعة العاشرة صباحاً وحتى الثانية عشر ليلاً، بسبب مشاركتي في تظاهرة في مدينة (رام الله) وقع خلالها إشتباكات بيننا وبين الجيش الإسرائيلي، وكنا نقوم بإلقاء الحجارة عليهم، وهم يردون علينا بالرصاص الحي، طاردونا ولحقوا بنا وأمسكونا، كنا خمس فتيات، وكان حينها من النادر إعتقال الفتيات وكنت في الصف الأول ثانوي (أي العاشر في هذه الأيام) وتعرضت يومها للضرب المبرح حتى أنني عندما خرجت(بكفالة طبعاً) وأردت خلع معطفي لم أستطع خلعه دون قص الكم وتمزيقه من شدة الورم في يدي والتي لم أحس بألمها إلا بعد ساعات طويلة من الإحتجاز هذا عدا عن الكدمات في ظهري وفي رجلي، بعد ذلك زاد حقدي وكرهي لهذا العدو وإزددت عنفاً وحرصاً أمنياً بذات الوقت، وإزداد مخزون خبرتي قليلاً، أي بدأت أراكم تجاربي المتواضعة علني أكون خبرة جيدة في الحياة تؤهلني للإنضمام وبوعي بسيط لأي تنطيم يحقق طموحي في المقاومة.
الإنتماء لفتح.
وفي يوم من الأيام وبدون سابق إنذار حصل الذي كنت أنتظره منذ زمن، وكنت في الصف الثاني ثانوي أي (الحادي عشر) وكانت لي صديقة من القدس وفي نفس الصف، قالت لي: نادية أريد أن أطلب منك طلباً، أرجو أن تحضري غداً إلى المدرسة باكراً لأنني أريد منك أن ترافقيني في مشوار خاص، كانت هذه الصديقة تكبرني بسنة وكانت من الفتيات الجميلات فلم يخطر ببالي إلا أنها تريدني أن أذهب معها للقاء حبيب أو صديق لها، وهذا محتمل جداً خاصة وأننا كنا في سن الشباب والمراهقة، ووعدتها بالحضور باكراً، وفي اليوم التالي وجدتها بإنتظاري على باب المدرسة وغادرنا مسرعتين لئلا يرانا أحد وبدا عليها الإرتباك والقلق الشديدين ذهبنا إلى حيث موعدها في رام الله التحتا في أحد الشوارع الخالية من المشاة تقريباً، وسألتها في الطريق عن الشخص الذي تريد لقاءه فكان جوابها بسرعة وبإختصار:"أريد أن أقابل واحد يريد أن ينظمني إلى فتح وكنت خائفة من الذهاب وحدي وطلبت منك لثقتي بك الحضور معي"، لا أدري هل أفرح أم أحزن، فقد وجدت ضالتي التي أبحث عنها منذ زمن وبنفس الوقت لست أنا من سينتظم بل صديقتي، وما هي إلا لحظات حتى كان شاب ذو شاربين يملآن وجهه وقامة طويلة شامخة وعينين يشع منهما الذكاء والحرص والإندفاع وشخصية تتسم بالجدية والصرامة يمشي باتجاهنا بخطى واثقة ولكنها بطيئة إلى حد ما، وقف معنا وقد فوجئ بوجودي وتمشينا لمدة نصف ساعة تقريباً وقد تفاعلت مع طرحه أكثر من صديقتي وطلب موعداً آخر وبدأت القصة الغريبة والتي كانت أسرع بكثير مما كنت أتوقع، حصل اللقاء الثاني والذي كنت أنتظره بشوق لا يوصف وأعد الأيام والساعات والدقائق والثواني، أذكر ذلك اليوم جيداً ولن أنساه أبداً، فقد كان المطر ينهمر بغزارة وكان اللقاء في كراج باصات القرى الغربية لمنطقة رام الله في رام الله التحتا في أحد الباصات الفارغة والتي لم يحن دوره للتحرك، صعدنا أنا وصديقتي وأتى الشاب بعدنا بدقائق معدودة ولم ننزل من الباص إلا بعد أن وعدنا بأنه سيقوم بتزويدنا بأدبيات حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح، وأخذ موعداً آخر وآخر وزودنا بما وعدنا به وبدأت بقراءة كل ما كان يزودنا به بنهم وبسرية تامة حتى أنني كنت أقرأ في الليل بعد أن ينام الجميع في البيت حتى لا يلاحظ أي أحد ما أقوم به ، وبعد فترة وجيزة فوجئت بصديقتي تخبرني أنها لا تريد الذهاب للقاء ذلك الشاب ولا تريد الإنتماء وتريد قطع هذه العلاقة لأنه بعد أيام سيتم إعلان خطوبتها ولا تريد مشاكل، وفعلاً في الموعد القادم كنت وحدي في اللقاء وأخبرته بقرار صديقتي تم تقبل الموضوع وبدأنا المشوار أنا وهو، وتم إعتقاله في نفس الفترة ضمن حملة إعتقالات واسعة وكنت وصديقتي نشعر بالتوتر والقلق من أن يعترف علينا ولكن مرت الفترة بسلام وخرج من المعتقل أصلب من الأول وكانت صديقتي قد تزوجت وقمت بتنظيم صديقة أخرى وهي الأقرب إلي في ذلك الوقت على الرغم من أن السياسة كانت آخر إهتماماتها إلا أنها وبفترة قصيرة من التوعية وإشراكها في العديد من النشاطات والمظاهرات أصبحت السياسة هي من أهم أولوياتها، وبدأنا بنشاطنا من خلال الخلية التي انضممنا لها، بدءاً من توزيع المناشير، أذكر أول مرة تم إشراكها بعملية توزيع المناشير وكان موضوع المنشور الدعوة لإحياء ذكرى وطنية والمشاركة في مظاهرة لليوم الذي يليه وتم توزيعه في معهد المعلمات الحكومي الذي أدرس فيه حينها وفي الأماكن المتواجدة في ذلك الشارع وحتى دوار المنارة ، وبدا عليها الفرح لتنفيذ المهمة بنجاح، مروراً بالتدريب وإنتهاء بتنفيذ العمليات العسكرية .
الإعتقال والتحقيق في المسكوبية.
نهضت من نومي (الكاذب) وجلست في السرير مفزوعة من كثرة الجنود المنتشرين حولي وقد طلبوا مني مغادرة الفراش وتجهيز نفسي.
مشيت وبكل ثقة إلى غرفتي التي لم ينم فيها أحد تلك الليلة حيث كانت تشاركني فيها أختي الصغرى (مها) والتي ذهبت لتنام عند إحدى صديقاتها من أجل الدراسة فقد كانت امتحانات التوجيهي على الأبواب، رافقتني مجندة وهي تسألني إلى أين؟ فأجبتها إلى غرفتي وتناولت منشفتي الخاصة وتوجهت إلى الحمام وكانت بالطبع تلحق بي ومن ورائنا جمع لا بأس به من الجنود المنتشرين في البيت، بدأت بتنظيف أسناني وأنا أنظر إلى المرآة بتمهل شديد، أيضا غسلت وجهي وعدت إلى ثانية إلى غرفتي لأبدأ بإرتداء ملابسي التي حضرتها مسبقا وكانت ملابس ثقيلة نوعا ما على الرغم من أن الصيف قد بدأ مبكرا في تلك السنة، فلم أتخل عن ذكائي وحرصي وكنت قد حسبت حسابا للزنازين الباردة الرطبة فارتديت جاكيتاً من الصوف له قبعة، بدأت بتسريح شعري، كنت قد أصبت منذ أيام بضربة شمس أحدثت حرقاً في وجهي وخلفت بقعة حمراء تحت عيني فتناولت المرهم المخصص لعلاجها ووضعت بعضا منه على الحرق، كنت أختلس النظر عبر المرآة إلى كل موجودات غرفتي لأملي عيناي منها وأنا أحترق من دموع الحزن المكبوتة بين أضلعي، سريري الذي ما زال مرتباً، خزانتي طاولتي وأشيائي الخاصة المرتبة عليها، وهذه الغرفة التي حوت كل تناقضات أفكاري ومشاعري، أحلامي الكبيرة، أفراحي وأحزاني، ضحكاتي وبكائي باختصار حضنت كل أسراري في السنوات الطوال التي عمرتها فيها.
وما أن أزفت ساعة الخروج حتى أحسست بقلبي يرتجف بين أضلعي، يكاد يتفطر حزنا ويتلوى ألما على فراق أغلى الناس إلى قلبي، أمي وأبي الواقفان كجبل الطور الشامخ بلا حراك إلا من تمتمة شفاه لم تنقطع أبدا عن الدعاء والرضاء، ما زلت متماسكة قوية برغم كل ما يدور بداخلي من ثورة للمشاعر والأحاسيس، وفي خضم هذا الصراع بين الداخل والخارج لهذا الجسد الذي كان على وشك الانهيار فقد تم إنقاذ الموقف من أخي الأصغر(ماهر) وهو توأم مها ، بأن ضمني إلى صدره على الفور متمتما ببعض الكلمات التي لم أسمع منها شيئا بتصميم مني على ذلك حتى لا أضعف أمام هذا العدو الذي يرقب كل حركة وتعبير.
حانت لحظة المغادرة، اللحظة التي لا يمكن نسيانها ولا يمكن لأحد الإحساس فيها إلا من مرت عليه وعايشها.
مررت بأمي وأبي وهما يقفان في الممر أمام باب غرفتهما ويلحق بي كل الجنود معلنين الإنسحاب، لم أقو على النظر إلى عيونهما بل واصلت السير على الرغم من حاجتي الماسة جداً في تلك اللحظة لدفن رأسي بعمق في حضنيهما الدافئين.
خرجت يتبعني الجنود بعد أن قاموا بتفتيش البيت والعبث بمحتوياته وما أن وصلت باب البيت ووقفت على عتبة أول درجة للشرفة المحببة إلى قلبي حتى لف شريط ذكريات السنين كلها في ثوان شعرت به كحبل مشنقة حريري حنون، تلك الشرفة التي شهدت سهراتنا، ضحكنا، لعبنا، أشجار الليمون الشهرية الثلاثة التي لا تنقطع عن الجود بعطائها طوال السنة، يا الله كم اهتممنا بها ورويناها حتى تنمو وتكبر ونستفيء بظلها، كم جلسنا حولها وتحتها نداعب أغصانها وحبات ليمونها الذي كنا نشتهيه فنقطعه ونقشره ونأكله مع الملح.
قيدوا يداي بالكلبشات وإقتادوني في سيارة جيب مكشوفة إلى مركز رام الله العسكري للإعتقال، إنتظرنا أكثر من نصف ساعة وهم يدخلون ويخرجون محملين بالأوراق وقد جهزوا لي ملفا رأيته فيما بعد في غرف التحقيق ، كانت الساعة تقارب الثالثة فجراً، انطلقت السيارة في شارع القدس الرئيسي من رام الله إلى القدس مرورا بمدينة البيرة.
حمدت الله بأنهم لم يضعوا العصبة على عيني فقد كانت يداي هما المكبلتان من الأمام فقط، كم هو رحيم ربنا فلم يحرمني من إلقاء نظرة الوداع لكل ما تقع عليه عيناي فكنت أحدق في كل شيء ، أحدث كل من مررت بهم وهم نيام في بيوتهم لألقي عليهم تحية الوداع بصمت وهدوء وقلب يقطر حزناً.
وصلنا مشارف القدس وكان السائق قد أضاع الطريق إلى المسكوبية (مركز الإعتقال المركزي في تلك الفترة في القدس)، كل لحظة يتأخر فيها في الوصول كانت تبدو كبركة من السماء لأحظى بالمزيد من التهام كل ما تقع عليه عيناي في القدس ، وفي النهاية رافقتنا إحدى دراجات الشرطة لتدل السائق على المكان المنشود.
ما أن وصلنا حتى أحاطني جمع غفير من الجنود والشرطة والمحققين، وإقتادتني شرطية إلى غرفة صغيرة وقامت بأخذ كل ما لدي من خاتم وحزام وسنسال ولا أذكر ماذا غيرها ووضعتها في كيس وقالت لي بأنها في الأمانات، وبعدها اقتادتني إلى غرف صغيرة متقابلة وهي غرف التحقيق وما يتبعها من زنازين ملحقة وتابعة لغرف التحقيق ، كان الوقت يشارف على طلوع الفجر وقد سألت عن الوقت وعرفت أن الساعة هي الخامسة إلا ربع فجراً، أجلسوني في أحد الغرف الصغيرة التي تعلوها نافذة ذات شبك صغير جداً لا يدخل من فتحاته إصبع اليد الصغير(الخنصر)، كان السكون يخيم على المكان، إخترقه صوت نسائي يقول (قلت لك ن) فاستجمعت كل قواي السمعية والذهنية كي أميز الصوت لكنه غاب ليعتلي السكون العرش من جديد، أيقنت أو بالأحرى حللت لحظتها بأن الصوت الذي سمعته من الممكن أن يكون صوت (ن) رفيقة دربي ونضالي، حيث كانت تجيب عليهم حين سألوها عن أسمها (هذا ما أقنعت به نفسي حينها)، ولأكتشف فيما بعد أن (ن) قد تم إعتقالها الساعة الخامسة فجراً أي لم تكن قد وصلت بعد عندما كنت أنا في المسكوبية وسمعت أسمها الذي كانت (ف) تدلي به حينها.
وحسب المثل القائل (راحت السكرة واجت الفكرة)، بينما كنت مستغرقة في التفكير ترى من أين وكيف سيبدؤون؟ كنت قد باشرت بتحضير سيناريو للإستجواب وبما سيتم مواجهتي به، حددت خطاً أحمراً للاعتراف خاصة فيما يتعلق بالعمليات العسكرية والكثير الكثير من الأمور.
قطع علي حبل أفكاري صوت باب الغرفة يفتح بقوة وإذ بمحقق يدخل الغرفة، طويلا نحيلا أزرق العينين أشقر الشعر متجهم الوجه مما جعل بشرته البيضاء تحمر وقد وجه الكلام إلي فجأة :(فغطت المسبحة يا جان داغك) أي (فرطت المسبحة يا جان دارك)، واضح من لكنته أنه من اليهود الغربيين الذين يلدغون بحرف الراء أو لا يستطيعون نطقه، أدار ظهره وتابع: نادية الخياط، لا آسف جان دارك! ماذا تقولين؟ رفعت رأسي لأرد عليه: هل تكلمني؟ فما كان منه إلا أن بدأ بالصراخ : وهل أكلم نفسي إذاً؟ هل أنا جان دارك؟ "لم يترك لي مجالا للرد، غادر الغرفة وأغلق الباب بعصبية وتركني مرة أخرى، هذه البداية بدت لي غير مبشرة بالخير! أي خير هذا الذي يأتي وقد بدءوا بالاسم الحركي الذي كنت ألقب به في المجموعة التي أعمل من خلالها، لقد أوصل الرسالة القصيرة الملغومة وتركني، لكني صممت على التركيز في السيناريو الذي أعددته لنفسي مهما كانت المواجهات عنيفة.
هكذا بدأت رحلة التحقيق والتعذيب والضغط من أجل انتزاع الاعتراف بكل التفاصيل التي تمت مواجهتي بها.
بدأت هذه الرحلة جيئة وذهابا ما بين غرف التحقيق والزنزانة رقم(10)، تلك الزنزانة اللعينة التي كانت ملاذي الوحيد لبعض الراحة برغم قسوتها بعد ساعات التحقيق الطويلة، وتأتي هذه الزنزانة، (التي مر عليها مئات بل آلاف المعتقلين من المناضلين والمناضلات) في نهاية ثلاثة دهاليز معتمة، وهي عبارة عن زنزانتين متقابلتين أحدهما بسرير والأخرى فيها سريرين وكان نصيبي ذات السرير الواحد ومساحتها 2×2 متر مربع وفيها حوض صغير للتغسيل ولكن طوال الوقت كانت المياه مقطوعة عنه، وعلى مرحاض صغير أرضي حيث كانت هناك ماسورة هي المتفردة والوحيدة في إنزال المياه وبالتأكيد كانت تلتصق في فتحة المرحاض وبهذا تكون هي المصدر الوحيد لتغسيل الوجه والشرب والغسيل والإستحمام إن كان بالإمكان وكل ما يتعلق بأمور نظافة الزنزانة، كما وتحتوي على السرير ذو القاعدة الحديدية المقطعة إلى مربعات بمساحة 15 سم مربع، ومرتبة أسفنجية رقيقة أو بالأحرى نصف مرتبة ، إضطررت لإستخدام الكثير من أجزاءها لأغراض خاصة وإضطرارية عندما جاءتني الدورة الشهرية بشكل مفاجئ مسبقة عن موعدها نتيجة الحالة النفسية المضطربة ، وقد رفضوا إعطائي الفوط النسائية الخاصة بذلك والتي طلبتها بإلحاح دون فائدة ترجى وكأنهم يصرون على الإذلال والإهانة ويعتبرونها أيضاً وسيلة ضغط من ضمن وسائلهم الدنيئة ولكننا لا نعدم الوسيلة أبداً ونجد البدائل لصالحنا رغم قسوتها ، أما أرض الزنزانة فكانت بالنسبة لي حينها آية في الاتساخ وقد حاولت أكثر من مرة أن اطلب مواد وأدوات لتنظيفها ولكنهم رفضوا الاستجابة لأي منها ، كان يوجد في سقفها نافذة صغيرة ذات شبك ومغطاة بمادة شبه شفافة حيث كنت أرى أقداما تروح وتجيء دون سماع أي صوت وكان مجرد النظر إلى السقف يشكل توتراً غريباً وهذا ما كانوا يهدفون له ، ولكنني كنت أتحاشى النظر إلى السقف في كثير من الأحيان وبعدها تعودت على النظر دون أن أتأثر أو دون أن يسبب لي مصدر إزعاج ، وقد تم استخدام كل أساليب التعذيب الجسدي والنفسي، من الشبح والضرب والتهديد بالإعتداء الجسدي، الى التهديد باعتقال أفراد الأسرة وبالفعل فقد تم اعتقال اختي مها وجعلوني أراها من ثقب الباب فقط وأسمعوني أصوات صراخ وتعذيب من اجل ايهامي بانهم يقومون بتعذيبها وكل ذلك من أجل الضغط علي للإعتراف بكل التهم التي لفقوها ونسبوها إلي .
الدخول إلى المعتقل، والمحاكمة.
تم نقلنا من مركز التوقيف في (المسكوبية) بعد مضي ثلاثة أشهر ونصف على إعتقالنا كما ذكرت، إلى المعتقل المركزي للنساء، (معتقل الرملة) المعروف (بنيفي تيرتسا) وهناك بدأت مرحلة جديدة من مراحل العمر، رحلة من نوع مختلف وأصر على تسميتها رحلة لأنها بدت لنا كذلك نسبة لما جاء بعدها من عدم مغادرة للمعتقل نهائياً.
لقد كان لها مذاقاً آخر، وكان واضحاً منذ بدايتها بأن هناك مخططا مدروساً منظماً يتم تنفيذه ببطىء يعمل على قتل الروح المعنوية وطمس الهوية النضالية، أي اكمالاً لمخطط التحقيق، فما يفشلون فيه بالتحقيق من الممكن الحصول عليه حسب مخططاتهم عبر ضغوطاتهم وتأثيرهم في الحياة اليومية للأسيرة، هكذا هم يخططون ويعتقدون، ومن هنا بدأ الإستعداد لمواجهة هذه المرحلة، وتجميع القدر الكافي من الإرادة والتحدي لخطط إدارة المعتقل من أجل إفشال كل المخططات والخطط، إذن بدأت المعركة، معركة الوجود، معركة التحدي، ومعركة الصمود.
لم يكن إلا معتقلاً واحداً للنساء في كل الوطن، وهو (معتقل الرملة)، وكان يضم الأسيرات الفلسطينيات، والسجينات اليهوديات الجنائيات، وهذا الخلط من البشر بحد ذاته مشكلة، ويعمل على تعقيد مهمة التأقلم في هذا المكان ومع هذه النوعيات، فمنذ أن وطأت أقدامنا معتقل (نيفي تيرتسا)، حاولت إدارته وضع سور من العزلة بيننا وبين جميع الأسيرات الفلسطينيات، والجنائيات اليهوديات، ثم وضعت مجموعتنا القادمة من المسكوبية وكنا 5 فتيات في غرفة واحدة ومنعت الأخريات من الحديث معنا، ولكن أخواتنا تحدين كل شيء ولم يتركننا لحظة متى إتيح لهن ذلك.
أما السجينات اليهوديات عرفنا بأن الإدارة تشيع بينهن إننا مجموعة قاتلات وإرهابيات ومخربات…الخ، من هذه الألفاظ التي تثير النقمة والكراهية في نفوسهن إتجاهنا، مما أدى إلى إبتعاد بعضهن عنا، ومضايقة بعضهن الآخر لنا بالشتائم والمسبات، مما أدى إلى إثارة المشاكل بيننا، وحاولنا إستيعاب ما يقمن به، وما تحيكه الإدارة من مكائد، وقد أخبرتنا بعض السجينات اليهوديات المتعاطفات معنا بأن الإدارة تجلس مع كل سجينة يهودية جديدة وتفهمهن بأن أولئك الفتيات الفلسطينيات المخربات هن من قتلن الكثير من أبناءنا، وكانت تصفنا لهن بأننا كالقرود والحيوانات التي لها قرون ومتوحشة، وبهذه الصورة تدخل السجينة اليهودية تريد أن تشاهد هذه الحيوانات وهي في قفصها دون الإقتراب منها لئلا تقوم بأكلها أو إيذائها.
بعد ذلك بدأنا بفهم معادلة المعتقل، شيئاً فشيئاً من الأخوات اللواتي كن قبلنا، فبدأنا بإعداد أنفسنا للتعايش مع كل الأوضاع، ووضع برنامج ثقافي سياسي ودراسي، كانت الأخوات تزودننا بالكتب المتوفرة في مكتبة المعتقل على مدى سنوات طويلة، بالرغم من محاولة إدارة المعتقل من منع وجود الكتب معنا، إلا إننا أصرينا على شرعية وجودها وناضلنا فترة من أجل ذلك، وإستطعنا بشق الأنفس أن نخلق جواً ولو بسيطاً من الإستقرار في حياتنا داخل المعتقل، لا يمكن أن تكون دائمة حيث هناك متغيرات دائمة في حياة الموقوفين والموقوفات غير المحكومين، لأن هناك أنظمة وقوانين خاصة بهم من قبل إدارة المعتقل، ومكثنا على هذه الحال مدة سنة.
المحاكمة.
خلال وجودنا في معتقل الرملة كنا نذهب إلى المحكمة في مدينة تل الربيع (تل أبيب)، وذلك من أجل إظهار قضيتنا أمام العالم بأنها قضية إرهاب مدنية، وقامت عملياتها على قتل المدنيين، والأهم من ذلك كله والسبب الرئيسي في إتخاذ هذه الإجراءات هو تسليم أحد أفراد مجموعتنا وهو زياد أبو عين، الذي إستطاع الهرب إلى الولايات المتحدة وتم إلقاء القبض عليه هناك، فلو كانت القضية سياسية يكون له حق اللجوء السياسي في هذه الدولة طبقاً للقانون الدولي، ولكن تحويلها إلى قضية مدنية حتى يكون من حق الإسرائيليين المطالبة بتسليمه لها، وبهذا التحايل على كل القوانين والأعراف الدولية والمحلية استطاعت إسرائيل تحقيق أهدافها العدوانية والشريرة من خلال تحويلنا إلى محكمة تل أبيب المركزية.
وكان يتم نقلنا في كل مرة من معتقل الرملة إلى المحكمة، وكنا فرحات بذلك لأننا سنرى الطرقات والناس والبيوت والأهم من ذلك كنا نرى البحر، فالمحكمة المركزية لا تبعد كثيراً عن شاطئ البحر الذي كنا نمر به في طريقنا، خاصة عندما لا يضعون العصبة على أعيننا فقد كانوا يحتاطون بدلاً منها بكثرة الجنود والمجندات الذين كانوا يرافقوننا أثناء ذهابنا وإيابنا، والمفرح أيضاً رؤية الأهل (الذين كانوا يواظبون على حضور كل جلسة) في غير موعد الزيارة العادية، وعند وصولنا إلى المحكمة، كنا نرى قوات الشرطة وجحافل الجنود الذين يحاصروننا من أجل نقلنا إلى زنازين المحكمة والتي تقع تحت الأرض.
بعد نهاية الجلسة نعود إلى المعتقل، لنحدث أخواتنا ورفيقات دربنا اللواتي ينتظرن عودتنا بلهفة عجيبة، لنسرد لهن كل تفاصيل الرحلة، منها المضحك ومنها المبكي، وهكذا كانت تتكرر هذه الجلسات على مدار سنة من تاريخ اعتقالنا، ولن أنسى يوم النطق بالحكم، فقد ذهبنا إلى المحكمة كالمعتاد، وأثناء وجودنا في قاعة المحكمة وهتافنا وإستنكارنا وشجبنا لهذه المحكمة وشرعيتها، كانوا قد أحضروا يومها بعض الشهود من الجنود الذين أصيبوا بعاهات جراء العمليات التي قمنا بتنفيذها وعدداً إضافياً من أهلهم، مما زاد الجو توتراً وشحناً بالحقد والكراهية، حتى كادت أن تحصل معركة حقيقية بينهم وبين أهلنا، حاولوا الهجوم علينا أكثر من مرة، وحال بين نشوب هذه المعركة الشرطة والجنود المنتشرين بكثافة لم نلحظها في الجلسات الأخرى في ذلك اليوم، أنزلونا كالمعتاد إلى الزنازين ما عدا (ف9 والتي أبقوا عليها في قاعة المحكمة يومها وقد استغربنا الموقف، جاء شرطي بعد ساعتين من الزمن وسأل: من منكم (ل) ؟ فأجاب (من الزنزانة المجاورة ) أنا، فقال له تم إصدار الحكم عليك بالمؤبد وعشرون سنه! فأجاب : طيب. فسأل الشرطي مندهشاً: من منكن ناديه؟ فأجبته: أنا، كرر نفس الجملة التي قالها ل(ل)، فأخذت أضحك وأكملت حديثي مع (ن)، فوقف مذهولاً لا يصدق ما يرى ويسمع، وأكمل إبلاغ الحكم نفسه ل(ن) (وأخبرنا أن (ف) حكمت بعشرين سنة حيث هي الوحيدة التي لم يكن لديها عمليات ناجحة أدت إلى أي خسائر أو إصابات) وبعد فترة من الإندهاش والإستغراب وقبل أن يدير ظهره للعودة من حيث أتى قال: ألم تفهموا جيداً ما قلته لكم مع أن لغتي العربية واضحة؟ هل أعيد؟ قلنا له: فهمنا، فقد تم الحكم علينا بالمؤبد وعشرين سنة، هل من شيء آخر لديك أو هل من مشكلة لديك؟ قال توقعت أن أقوم باستدعاء سيارة الإسعاف بعد تبليغكم هذا الحكم! وأدار ظهره وغادر وهو يتمتم ويكلم نفسه كالمجنون.