د. ابو الحاج: مركز ابو جهاد يطلق حملة محاسبة اسرائيل على انتهاكاتها الجسيمة بحق الاسرى
الأسير المحرر المناضل أحمد أبو السكر يروي محطات هامة من سيرته النضالية والاعتقالية
أحمد جبارة أبو السكر من مواليد العام 1936م, من سكان قرية ترمسعيا شمال مدينة رام الله، متزوج وله ثلاثة أولاد وثلاث بنات، هاجر إلى أمريكا الجنوبية في سن مبكرة من عمره في خمسينيات القرن العشرين، وعمل في غير حقل وحقل في دول أمريكا اللاتينية، انتقل في العام 1965م للعمل في الولايات المتحدة واستقر به المقام في ولاية نيوجرسي، وهناك تطورت أعماله التجارية لدرجه أنه أصبح قادراً معها على استقبال واستضافة العديد من الوفود الفلسطينية والعربية المناصرة للقضية الفلسطينية، وذات يوم من أيام العام 1969م استقبل وفداً فلسطينياً قادماً من بيروت برئاسة الأخ أبو خالد الذي تطورت علاقة تنظيمية وشخصية قوية بينه وبين أحمد أبو السكر.
الالتحاق بحركة فتح
حدث ذلك بعد عودتي من زيارتي الأولى للوطن عام 1969م بعد احتلاله في العام 1967م، وقد كنت أحمل جواز سفر أمريكي, وفي رام الله رأيت منظراً أثار غضبي على المحتل وما زالت مقاطع ذلك المنظر راسخة في ذاكرتي إلى يومنا هذا، فقد رأيت جندياً إسرائيلياً يجر امرأة فلسطينية من شعرها ويقودها إلى مقر شرطة الاحتلال المجاور لمدرسة الفرندز، وغادرت رام الله وأنا أحمل في داخلي مشاهد تلك الواقعة التي أنبتت في داخلي ما يكفي من استعدادات العمل وعلى الفور ضد المحتل الإسرائيلي، وعندما زارني الوفد الفلسطيني القادم من بيروت برئاسة الأخ أبو خالد في نهاية العام 1969م عرض عليّ أبو خالد العمل مع الثورة، فوافقت على الفور وبلا تردد.
وتواصلت علاقتي مع الأخ أبو خالد من خلال المراسلات، ونظم أبو خالد لي زيارة ناجحة لبيروت في العام 1973م التقيت فيها بالعديد من القادة الفلسطينيين منهم : الأخ أبو جهاد رحمه الله, والأخ مصطفى عيسى – أبو فراس، والأخ أبو حسن، وبعد ذلك طلب مني العودة إلى الضفة الغربية كمستثمر أجنبي، وبالفعل هذا ما حصل, وحصلت على الهوية الإسرائيلية خلال أربعين يوماً, وبدأ عملي العسكري من خلال توزيع الأسلحة على النقاط الميتة, وكانت كثيرة ومنتشرة على امتداد الضفة الغربية، وشكلت خلية عسكرية مكونة من ثلاثة أشخاص، وكانت تعليمات التحرك والعمل تأتينا من إذاعة صوت الثورة الفلسطينية. في العام 1975م التقيت بالأخ "أبو جهاد" في بيروت للمرة الثانية وتم الاتفاق معه على تنفيذ عملية كبيرة في القدس وبالتحديد في ميدان صهيون, قبل ذلك تم اعتقال عدد من الإخوة المرشحين للعمل معي لأسباب أخرى لا علاقة لها بعمل مجموعتنا، فغيرت الخطة وتم التحول إلى فكرة تفخيخ (الحافلة الثلاجة) بدلا من السيارة العادية, ولكن موقع التنفيذ لم يتغير، وبالفعل تم تجهيز السيارة بتثبيت 35كغم من المتفجرات في مكان آمن بداخلها مع ساعتي توقيت، وتم ركن السيارة في شارع يافا – ميدان صهيون في يوم 5/7/1975م, ومع تمام الساعة العاشرة صباحاً انفجرت السيارة، وأسفر انفجارها عن مقتل 13 إسرائيلياً و إصابة 78 آخرين بجروح مختلفة، بعد ذلك غادرت البلاد واستطاع زميلي في المجموعة العودة إلى نابلس، ومكثت في بيروت فترة من الزمن، خلالها قابلت الأخ أبو عمار والأخ أبو جهاد.
من الطريف القول هنا بأن الجبهة الشعبية –القيادة العامة كانت قد أعلنت من بيروت عن تبني العملية مدعية بأن إحدى مجموعاتها العاملة في منطقة طولكرم هي التي نفذت العملية، بسبب ذلك استدعى الأخ القائد أبو عمار أحمد جبريل بحضور الأخوين أبو جهاد و مصطفى عيسى أبو فراس، وحضور شخصية فلسطينية مستقلة, وسأل الأخ أبو عمار أحمد جبريل عن ادعاء الجبهة حول ما قالت، فكرر ادعاءه، هنا أحضر الأخ أبو جهاد كتابًا يسمى (كتاب العمليات), وهو على الأرجح تقليد عسكري متبع لدى الفصائل كافة تدون فيه الحيثيات والخطة والأسماء الحقيقية للأشخاص المكلفين بتنفيذ عمل عسكري ما, وتحديد زمان ومكان التنفيذ، ويكون هذا الكتاب في عهدة المسؤول العسكري الأول، إلى جانب ذلك طلب مني الحديث عن ما قمنا به أمام الحضور، أما الشخصية الفلسطينية المستقلة التي حضرت النقاش فقد قال بعد أن أنهيت حديثي: " إن هذا الصوت – أي صوتي– ليس بغريب عليّ وأنا على ثقة بصحة ما ورد في كتاب العمليات وصحة أقوال صديقنا المنفذ" . هنا تدخل المرحوم أبو عمار وقال لأحمد جبريل: "لحد هون وبكفي، أرجو أن تتوقفوا عن ادعاءاتكم حول هذه العملية وأن لا يتكرر هذه العمل مستقبلاً"، بعد ذلك اقتنع أحمد جبريل بما سمع وانتهى النقاش.
الاعتقال والتحقيق
بعد هذه الجلسة غادرت بيروت إلى الولايات المتحدة ومكثت فيها 52 يوماً فقط, ومنها سافرت إلى الأردن ومنها إلى الضفة، وقد خرجت من الضفة ودخلت إليها أربع مرات على مدار عام وشهرين تقريباً، وفي المرة الخامسة تم اعتقالي على الجسر، وكان ذلك في يوم 20/9/1967م بعد عودتي من ألمانيا عبر الأردن، وعرفت فيما بعد أن هذا الاعتقال تم بسبب اعتراف أحد الأشخاص الذين كنت قد نظمتهم في وقت سابق بعد أن أرسلته إلى دمشق حاملاً معه كلمة سر متفق عليها مع مكاتب الثورة وهي (الثلاجة), وتشير إلى أن المرسل إليهم هو من طرفي، بعد أن حصل الشخص المشار إليه على مبتغاه عاد إلى الوطن وبدأ عمله العسكري في منطقة نابلس، وبعد تنفيذه مع آخرين عملية إطلاق نار على حافلة إسرائيلية تم اعتقاله, وخلال التحقيق معه اعترف عليّ, وأفصح للمحققين عن كلمة السر، وهي التي قادت إلى أن يمسك المحققون بطرف الخيط حول عملية الثلاجة، وكان ما قام به هذا الرجل عملاً دنيئاً بكل ما في الكلمة من معنى لأنه قايض شهادته عليّ في التحقيق بتخفيف الحكم عليه, وفعلاً عندما حوكمت مجموعته حصل على حكم مدته 3 سنوات مقابل اثني عشر عاماً لزملائه.
وتواصل التحقيق معي في زنازين المسكوبية في المرحلة الأولى على مدار ثمانية وعشرين يوماً، خلالها لم أعترف بأي شيء, وخلال هذه المرحلة لم يواجهوني باعترافات الشاهد، مع نهاية اليوم السابع والعشرين أبلغني المحققون بأنهم قرروا إبعادي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبالفعل تم نقلي مقيداً من المسكوبية إلى مطار اللد (بن غوريون), وهناك وجدت زوجتي وابني رياض, وكان له من العمر حينها عامان فقط، وابن عم لي كانوا جميعاً بانتظاري ليودعوني، وغادروا المطار بعد ذلك.
أما أنا فقد أصعدوني إلى الطابق الثاني من إحدى البنايات في المطار، وهناك قدموا كأس نسكافيه، بعد أن شربته نمت وعندما صحوت وجدت نفسي داخل زنزانة مظلمة، فيما بعد عرفت بأنني في زنازين تحقيق مخابرات الخليل، وهناك تواصل التحقيق معي على مدار 153 يوماً, وبقيت على موقفي إلى أن واجهوني بالشاهد, وقال لي ضابط المخابرات: اسمع يا أبو السكر, سواء اعترفت أم لم تعترف فأنت محكوم مدى الحياة 30 عاماً", وبالفعل هذا هو الحكم الذي حصلت عليه في قرار المحكمة النهائي في شهر شباط 1977م.
النقل إلى معتقل بئر السبع
بعد الحكم عليّ عدت إلى معتقل رام الله، وبعد مرور أيام قليلة تم نقلي إلى معتقل بئر السبع، وعندما وصلته استقبلني الإخوة والرفاق هناك استقبالاً أخوياً دافئاً, وتم إيداعي زنزانة انفرادية داخل المعتقل تسمى (إكس) وزاملني المكوث في هذا الإكس الأخ المناضل زهران أبو قبيطة؛ لأن إدارة المعتقل رفضت إدخالي إلى الغرف الكبيرة تخوفاً من تأثيري على باقي الأسرى.
رغم ذلك, وذات يوم من أيام عيد الأضحى تمكن التنظيم من نقلي إلى واحدة من غرف المعتقل الكبيرة, وهي غرفة (3) في قسم (أ) وفيها أمضيت ساعة مفعمة بالحماسة والتقدير الكبير من قبل الأسرى تقديراً منهم للعمل الذي قمت به.
وخلال وجودي في معتقل بئر السبع شهدت معركة الإضراب الكبير فيه والذي أطلق عليه الأسرى "إضراب الحريق 11/3/1978م", وعلى إثره نقلت إدارة المعتقلات ثمانين أسيراً منه إلى معتقل طولكرم وثلاثة عشر آخرين إلى معتقل عسقلان, وكنت من بين الذين نقلوا إلى عسقلان.
الوصول إلى معتقل عسقلان
سألتني إدارة معتقل عسقلان في الدقيقة الأولى لوصولي: هل ترغب بالعمل في ورش العمل التابعة للإدارة؟
قلت: لا أريد العمل، بسبب ذلك تم إيداعي قسم (حيط) في غرفة (27), ومن الجدير ذكره أن العمل في ورش إدارة المعتقل بقي قائما في عسقلان إلى نهاية العام 1978م، وتوقف بعد ذلك، وبقي العمل قائماً في المرافق الخاصة بخدمات الأسرى مثل: المغسلة, والمطبخ, والمكوى, والمكتبة، وفي عسقلان التزمت ببرنامج لعب الرياضة وقراءة القرآن وغيره من الكتب الثقافية الأخرى, وأمضيت في عسقلان خمس سنوات.
النقل إلى معتقل جنيد
بعد افتتاح معتقل جنيد في نابلس تم نقلي إليه مع باقي أسرى عسقلان، وفي جنيد عملت في مكتبته وكانت بجانب قسم 7 وكان فيها ستة آلاف كتاب، وكنت أقوم مع زميل آخر بتوزيع الكتب على أقسام المعتقل, وإعادة جمعها, وحفظها, وصيانتها من التلف والضياع، ووفر لي هذا العمل فرصة لرؤية غالبية الأسرى في كل الأقسام تقريباً.
في معتقل جنيد أيضاً شاركت بالإضراب الكبير الذي نفذه الأسرى في يوم الأحد 23/9/1984م, والذي استمر لمدة 12 يوماً أنجز في نهايته الأسرى مجموعة مهمة من الانجازات في مقدمتها جهاز الراديو الصغير.
حرماني من التحرر في صفقة تبادل الأسرى
لم يحالفني الحظ بالخروج من المعتقل في صفقة التبادل الكبرى (صفقة الجليل 20/أيار/1985م( بين الجبهة الشعبية القيادة العامة وإسرائيل, والتي تحرر بموجبها كما هو معروف 1150 أسيراً من معتقلات الاحتلال، وذلك لسببين: الأول لأن أحمد جبريل لم يكترث بوجود اسمي ضمن قوائم المفرج عنهم؛ بسبب الضغينة التي تولدت داخله ضدي بعد الجدل الذي أعقب عملية الثلاجة بينه وبين فتح، وتمسك إسرائيل بعدم إطلاق سراح "من على أيديهم دم" وفقاً للتصنيف الإسرائيلي، علماً أن إبراهيم تامير) المفاوض الإسرائيلي الرئيس في صفقة التبادل) قال فيما بعد فيما يشبه الشهادة حول كواليس التفاوض حول الصفقة: " بأنه لو أن الجانب الفلسطيني المفاوض تمسك لثوان قليلة لحصل على مطلبه القاضي بإطلاق سراح الـ 38 أسيراً الذين تحفظت إسرائيل عليهم، وخاصة بعد أن وافقت على إطلاق سراح (38) قبلهم ممن كانت تتحفظ على خروجهم من الأسر خلال الشطر الأول من التفاوض".
ما بعد الصفقة والبقاء داخل الأسر
استوعبت الصدمة وعدت إلى حياتي الطبيعية, وانكببت على قراءة القرآن والصلاة، وكان في ذلك تسلية لروحي وشد لأزرها وتمكين لها من تحدي الظرف القاهر الذي أضيف إلى قيد الأسر، ووجدت طاقتي الروحية تتجدد, وشاركت الأسرى برامجهم وحياتهم. وفي معتقل جنيد قرر الأسرى خوض غمار معركة جديدة ضد إدارة المعتقل التي بدأت بالهجوم على مكتسباتهم ظناً منها بأن عزيمة الأسرى قد مسها الوهن بعد عملية التبادل، وبالفعل بدأ الإضراب الذي تواصل لمدة 22 يوماً وانتهى باستجابة الإدارة لمطالب الأسرى وفي مقدمتها السماح لهم باقتناء جهاز التلفزيون.
زيارة نبيل شعث وهشام عبد الرازق لمعتقل جنيد
بعد تأسيس السلطة ودخولها إلى غزة وأريحا، وتشكيل أول حكومة فلسطينية زارنا في معتقل جنيد الأخوان: نبيل شعث, عضو اللجنة المركزية لحركة فتح, وهشام عبد الرازق وزير الأسرى؛ لكي يطمئنوا الأسرى على مصيرهم ويعطوهم فكرة عن جهود السلطة المبذولة لإطلاق سراحهم، وكان يرافقهم المفاوض الإسرائيلي "موشي ساسون" وهو أيضاً ثاني سفير إسرائيلي في القاهرة.
وقد قابلت الوفد المذكور ممثلاً للأسرى مع الأخ عدنان الصرخي، وبدأ بينا حوار، فاقترح الأخ عدنان الصرخي أثناء النقاش أن يتم إطلاق سراح الأسرى خلال العامين القادمين، عندها ضربت بيدي بحدة وعنف بالغين طاولة الاجتماع، مما أدى إلى تبعثر ما عليها من ضيافة كالعصير, والكيك, ومياه الشرب، وقلت له: يعني تريدني أن أكمل واحدًا وعشرين عاماً هنا، وكان حينها قد مضى على وجودي في الأسر تسعة عشر عاماً، فخيم الصمت والوجوم على الحضور، فقطع هذا الصمت المفاوض الإسرائيلي موشي ساسون, فسألني: من أي تنظيم أنت؟
قلت له: من فتح.
فقال: حسب علمي فإن كل أسرى فتح غادروا المعتقلات.
قلت له: أنت مخطئ، فهناك العشرات ممن تدّعون بأن أيديهم ملطخة بالدماء وما زالوا في أسرهم, ويمكنني منحك قائمة بأسمائهم، وتابعت موجهاً حديثي إلى نبيل شعث وهشام عبد الرازق: " طالما أن (م.ت.ف) وقعت على اتفاق سلام مع إسرائيل واعترفت بها وعادت إلى الوطن يجب أن لا تبقي أي أسير من أسراها في المعتقلات الإسرائيلية".
فتابع ساسون حديثه قائلاً: تمنوا من الله أن لا تقوم حماس أو تنظيم الجهاد بأي عمليات جديدة؛ لكيلا تفسد أجواء المفاوضات والحديث عن إطلاق سراح الأسرى )الملطخة أيديهم بالدماء).
فقلت له: أعتقد يا ساسون بأن حكومتك تعمل على مثل هذا الاحتمال لكيلا يطلق سراح أي أسير منا.
انتهى الحوار وعدنا إلى الغرف، ولم يطلق سراح أي أسير من الذين دار حولهم النقاش إلى نهاية العام 2011م.
العودة إلى معتقل عسقلان من معتقل جنيد
بسبب إعادة الانتشار ودخول السلطة إلى نابلس تم إفراغ معتقل جنيد من الأسرى وتوزيعهم إلى باقي معتقلات الاحتلال داخل الأراضي المحتلة (1948م), وكان نصيبي أن أعود إلى معتقل عسقلان, وكان يتواجد فيه حينها أسرى منطقة القدس وأبناء قطاع غزة، وفيه عشت مجدداً يوميات الاعتقال المعتادة ملتزماً ببرامج الأنشطة اليومية من قراءة ورياضة، وتسلمت فيه مهمة إدارة الصندوق الاعتقالي (المالية), وبقيت في عسقلان إلى نهاية يوم 3/6/2003م وهو يوم تحرري من الأسر.
التحرر من الأسر
مع بداية شهر أيار 2003م زارتني محامية مؤسسة مانديلا الأخت بثينة دقماق، وقالت لي: "هناك أخبار مؤكدة عن إمكانية إطلاق سراحك"، في الحقيقة لم أكترث بهذا الخبر ولم أبنِ عليه آمالاً؛ بسبب كثرة الأخبار السابقة والكاذبة حول تحرري وتحرر غيري من الأسرى، لكن ذات يوم من أيام أواخر شهر أيار كنت نائماً في غرفتي بصحبة بعض من الأسرى من بينهم الأخ توفيق عبد الله أبو إبراهيم، الذي كان يتابع الأخبار عبر المذياع، فسمع خبرًا ما بخصوصي، فأيقظني من نومي ليخبرني بما سمع فقال: " يبدو أن أبو مازن وشارون قد اتفقا على إطلاق سراحك، وهناك مؤتمر صحفي لنبيل شعث بعد قليل ليعلن عن هذا الاتفاق".
في اليوم التالي خرجت مع باقي الأسرى للفورة الصباحية، اقترب مني السجان (نجم) وقال لي :ماذا تفعل يا أبو السكر؟ ما زلت تلعب رياضة؟ ستغادر المعتقل بعد عدة أيام. في يوم الجمعة التالي وبعد انتهاء الصلاة جاءني ضابط يدعى "آشر غرابو" بصحبة قائد المنطقة الجنوبية وقال لي: هناك أخبار جيدة يا أبو السكر", قلت له: "سمعت بذلك" , وانصرفت عنه بلا اكتراث، لكن أخوين لي تابعا الحديث معه وهما فيصل أبو الرب وعثمان مصلح أبو الناجي، وتوصلا إلى نتيجة مفادها أن ما تفوه به الضابط جاد وحقيقي.
في صباح يوم 3/6/2003م اقترب مني سجان إسرائيلي مغربي الأصل وأشار لي بحركة من يده تومئ بأنني مفرج عني أو "مروح" بلغة الأسرى والسجانين, مضى النصف الأول من النهار بلا أي تطورات تذكر, مع بداية النصف الثاني منه عاد الشرطي المغربي وطلب مني الخروج إلى الإدارة (اليومان) وكنت في هذه اللحظة ألعب رياضة في الساحة، فقلت له: لن أذهب قبل أن أغتسل وأحلق ذقني، وبالفعل عدت إلى الغرفة حلقت ذقني واغتسلت، بعد ذلك اصطحبني ذاك السجان إلى يومان الإدارة، فطلب مني مدير المعتقل أن أعود إلى الأقسام وأقوم بتهدئة الأسرى الذين بدأوا بالصراخ والغناء احتفاءً بتحرري، وفعلاً عدت إلى الأقسام ووقفت في الساحة وطلبت من الأسرى الإصغاء ففعلوا، فقلت لهم: "أيها الإخوة, أيها الرفاق يمكن الاحتفال لمدة خمس عشرة دقيقة، بعد ذلك أطلب منكم التوقف عن ذلك وهذه رغبة إدارة المعتقل لإعادة الهدوء، وأنا لا أريد أن أجعل من يوم تحرري يوماً لإزعاجكم والتنغيص عليكم من قبل هذه الإدارة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعقبال الجميع"، وعدت إلى إدارة المعتقل وكان هناك بانتظاري ضابط الأمن "غرشون" وكان يحمل بيده قيودًا وسلاسل حديدية وربطة من قماش لإغلاق العيون، جهزت جميعها من أجلي، فسألته :لمن هذه القيود؟
قال: لك، والقانون قانون.
قلت له: لن تتمكن من ربطي بها حتى لو عدت إلى غرفتي، فتجاوب ضابط الأمن معي قائلاً سآخذ الأمر على عاتقي ولن أقيدك.
عندما خرجت من مبنى الإدارة إلى ساحة المعتقل وجدت سيارات عسكرية كثيرة وسيارة إسعاف بانتظاري، سألت ضابط الأمن: ما هذا؟ قال: سنخرجك من هنا بصفتك مريض؛ لأن المستوطنين أخذوا بالتجمهر في الخارج، وبالفعل ركبت السيارة التي طلب مني الصعود إليها وكان ضابط أمن المعتقل يتولى توجيهها وأنا بلا قيود, وتمكنت من رؤية الطريق بحرية للمرة الأولى منذ 27 عاماً، ووصلنا مدينة القدس ومنها سلكت السيارات العسكرية الطريق المؤدي إلى أريحا عبر الخان الأحمر، فقلت للضابط غرسشون: إلى أين نحن ذاهبون؟ فقد خطر على بالي في هذه اللحظة هواجس الإبعاد وأنه من الممكن أن أكون في طريقي إلى الجسر، فقال لي: إلى رام الله، فقلت له: إذاً أنت تسلك الطريق الخطأ، فدهش من معرفتي الدقيقة بالطريق إلى رام الله بعد هذا الغياب الطويل، فأمر السائق بتغيير اتجاه السير فوصلنا إلى الرام فأنزلني هناك من العربة العسكرية بعد أن أعطاني ورقة الإفراج، وكنت على وشك أن أدخل في متاهة، ولم يمضِ على ترجلي من العربة العسكرية أمتار قليلة حتى تعرف عليّ أحد الإخوة وكان يقود سيارة فقال لي: هل أنت أبو السكر؟
قلت له: نعم, قال: اركب.
وصلنا قلنديا وهناك فوجئت بالكم الهائل من الناس والمسؤولين الفلسطينيين الذين كانوا في استقبالي وفي مقدمتهم الأخ العزيز أبو فراس، وفي نفس السيارة التي أقلتني إلى مبنى المقاطعة حيث كان الرئيس عرفات بانتظاري تواجد معنا صحفي إسرائيلي فسألني: كيف ترى رام الله الآن؟
قلت له: قبل 27 عاماً كانت تحت احتلال سيء، واليوم هي في وضع أسوأ؛ لأن رام الله كانت في تلك الأثناء تخضع لنظام حظر التجول.
قال لي: غريب, ألا ترى العمارات والمباني الشاهقة الجديدة في رام الله؟
قلت له: هذا لا يعني شيئا لأنه من الممكن أن يهدمها جيشكم في لحظات معدودة.
أخيراً وصلت إلى مبنى المقاطعة وكان القائد عرفات في استقبالي فاقترب مني هاماً بتقبيلي, فقلت له: توقف، فتوقف، قلت له: قبل 27 عاماً قبلتني قبلة واحدة أرسلتني إلى غياهب الاعتقال لمدة سبعة وعشرين عاماً، هذه القبلة ستودي بي مجدداً قبل أن أصل دوار المنارة.
ضحك وقال لي: يا أبو السكر, أنا أسير مثلك, اقترب يا رجل, فتعانقنا عناقاً أخوياً دافئا وصادقاً، فأشار الرئيس لمساعده أبو السعود: سأمنح أبو السكر درجة وكيل وزارة، ورتبة عميد عسكري، وعضوية كاملة في المجلس الثوري، وقطعة أرض لكي يبني بيته الجديد عليها، وفعلاً هذا ما تم, رحم الله الرئيس أبو عمار وكلل بالنصر والفلاح مسيرة شعبنا الصابر المكافح.